هل يفلت مسلسل جن بفعلته؟

هل يفلت مسلسل جن بفعلته؟

16 يونيو 2019
+ الخط -
عدّة أيام مرت على إطلاق شبكة نتفليكس عملها العربي الأصلي الأول، متمثّلاً بالمسلسل الأردني جِنّ، والمؤلَّف من خمس حلقات مختلفة الأطوال تتراوح بين 46 و24 دقيقة، وعدة أيام مرّت على انطلاق عاصفة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام حول ما قدّمه المسلسل، الذي تضيف إليه الشبكة العالمية لقباً آخر، فإلى جانب كونه إنتاجها العربي الأول يُعدّ - كما ترى الشبكة - العمل الخيالي الخارق للطبيعة العربي الأول.

وبعد مراقبة معظم ما كُتِب عن المسلسل فإنه يمكن القول إنه يفلت - حتى الآن - من المحاكمة، بل ويستفيد من عاصفة الجدل والاتهامات التي يلاقيها ويزداد انتشاراً ويشعل المزيد من الفضول للمشاهدة من باب "كل ممنوع مرغوب".

هذه التدوينة هي محض انطباعات شخصية غير احترافية، وتبتعد عن الزاوية الأخلاقية التي حاول معظم من كتب عن المسلسل حشره فيها ومحاسبته من خلالها فقط باعتبار ما قدّمه يُعتبر خرقاً لعادات وتقاليد وقيم مجتمع الأردن ومجتمعاتنا العربية والإسلامية وتحدّياً سافراً وتشويهاً متعمّداً لهويتنا وخصوصيتنا!


فمنذ منتصف 2018 تقريباً ونتفليكس تعدنا بعمل عربي أصلي جرى تعريفه بالعبارات الآتية: "دراما معاصرة خارقة للطبيعة تركّز على شخصيات عربية شابة تتبع مجموعة من المراهقين الذين تتعطل حياتهم عندما تظهر شخصية روحية أمامهم في مدينة البتراء القديمة، يجب أن يحاولوا منع الجن من تدمير العالم".

هكذا كان الأمر وهذا ما كنا ننتظره: نتفليكس + البتراء + الجن + إنقاذ العالم = خلطة تمتلك عناصر التشويق والنجاح، ولكن المسلسل جاء بعكس ذلك، مخيباً للآمال وأبعد ما يكون عن التوصيف السابق، فالجن كان تائهاً في العالم بقدرات ساذجة وعاجزاً في مشاهد كثيرة ويشعر بالغيرة ويقع بالحب من النظرة الأولى ولا يعنيه العالم لا من قريب ولا من بعيد بقدر ما يعنيه حماية حبيبته البشرية!

المعاناة الكبرى في هذا العمل كانت من نصيب البتراء، فللوهلة الأولى يتصور المتابع أن استخدام البتراء في المسلسل هو نقطة قوة وذكاء، فهي مكان تاريخي مهم يمكن استثماره في عمل خيالي لا يخلو من تحقيق غايات ترويجية سياحية. ولكن المسلسل فشل في استثمار المكان بشكل واضح، ولم ترتبط الأحداث بالمكان بشكل عضوي، فكان ظهور المواقع فوضوياً وغير فاعل، ولعله يمكن أن نفهم السبب إذا عرفنا أن العمل كتب باللغة الإنكليزية لكاتب أجنبي أصلاً أراد وضع البتراء إطاراً مكانياً لعمله دون أن يكون مُلمّاً به، وهنا يمكننا القول للمدافعين عن المسلسل بحجة أنه المحاولة العربية الأولى والتي يجب أن نحاسبها بلطف وتسامح كبير، إن عليهم مشاهدة المسلسل الكوري الجنوبي Memories of the Alhambra "ذكريات قصر الحمراء"، وهو مسلسل من إنتاج نتفليكس أيضاً وليس هوليودياً لمن يرى أن المنتقدين يريدون شيئاً بمستوى "صراع العروش". في المسلسل الكوري تم تقديم غرناطة إطاراً مكانياً للعمل كما هو الحال في جن، ولكننا في المسلسل الكوري تعرفنا على الأماكن والساحات والأبنية والأحداث التي جرت فيها والحكايات والشخصيات التاريخية والأساطير وفق تقنيات تصويرية وسردية أقل ما تثيره لديك هو الرغبة في زيارة غرناطة، كنا مرتبطين عضوياً بالمكان وكان المكان فاعلاً في تطوير القصة بعكس ما تم تقديمه في جن، حيث بدت البتراء فقيرة هزيلة ولم تكن الأمكنة لاعباً أساسياً بل محض إطار مكاني يمكن استبداله بأي مكان آخر دون تشوه القصة... إن وجدت!

وإلى جانب الفشل في التبييء المكاني يحضر فشل آخر على الصعيد اللغوي والموسيقي، فالحوارات كانت أبعد ما تكون عن الحيوية والرشاقة وبدا في أكثر من موضع أثر الترجمة واضحاً، فضلاً عن الفوضى في اللهجة بين المدينة والبداوة ولعل مرد ذلك إلى ترك أمر تحويل المسلسل من الإنكليزية إلى اللهجة المحكية بيد الممثلين وهم شبان لا يتجاوزون العشرين من عمرهم ولم يسبق لهم التمثيل كما صرح القائمون على المسلسل في مقابلة مع مجلة سيدتي حُذفت من موقعها بعد انطلاق حملة التشنيع بالمسلسل! وكما لم تكن الموسيقى التصويرية المستخدمة موفقة في نقلنا إلى أجواء السحر والجن والبتراء وعوالم الصحراء التي تخفي الأسرار والحكايات، باستثناء لحظات قليلة ارتبطت بلقطة في بداية الحلقة الأولى عند وصول الطلاب إلى البتراء حيث تم تصوير البتراء بطائرة مسيرة، ولعلها كانت اللقطة الوحيدة الجيدة للمدينة، وعدا ذلك افتقرت اللقطات لعنصر الإدهاش الذي يستحقه موقع كهذا، علماً أن عبارة "قل ما يعبأ بكم ربي" التي قُدِّمت مُغناة مع هذا المشهد لم تكن ابتهالاً كما ذُكِر بل نصاً قرآنياً!

حاولت جاهداً التسامح مع برود الممثلين وحالة الرخاوة لديهم في الفك السفلي والفشل في الإطباق بعد نهاية كل جملة ولكني لم أفلح، كان الأمر مستفزاً جداً ونقص الخبرة كان واضحاً على الشبان الذين تم اختيارهم من مجموعة من المتطوعين ليمثلوا للمرة الأولى بعد دورة تدريبية لمدة شهرين ونصف، ولنقص الخبرة نفسه يمكن إرجاع تصريح سلطان الخليل الذي يؤدي شخصية "ياسين" حيث يقول عن المسلسل: "أعجبني نصه المميز الذي قدّم الشباب العرب بطريقة يطمح الشباب العرب إليها"، بالله عليك يا سلطان؟ شتائم وحشيش ومشروب وهياج وتنمر وانحلال عائلي... أهذه هي الصورة التي يطمح إليها الشباب العرب؟ يا حلاوة!

وكما تم تقديم البتراء بشكل ساذج وبسيط، تم أيضاً تقديم الجن بشكل طفولي ومسطح، ولم يحاول صنّاع السيناريو بناء قصة معقدة محبوكة تقدم لنا تفاصيل جيدة عن الجن تغاير ما يعرفه أي طفل عن أنهم مخلوقات شريرة خفية قادرة على إلحاق الأذى، وفشلت شخصية حسن الطالب المهووس بالجن وحكاياتهم وأخبارهم والتي كان من المفترض أنها ستقدم لنا المعلومات عن الجن في تقديم شيء مشوّق، واستمر حسن بتكرار عبارات لا تضيف جديداً، ولعل العمل على اقتحام هذا العالم الخفي كان سيعد أكثر جرأة من الاعتماد على الشتائم والكلمات ذات المحتوى الجنسي المنقولة عن النص الأجنبي بفجاجة، كما كان يمكن لحسن أن يقدم لنا شيئاً أكثر تشويقاً من مشهد قدومه إلى الآنسة علا ليشرح لها القضية عبر كومبيوتره المحمول ثم ليصرف دقيقة من الوقت وهو يبحث عن الشاحن ومأخذ الكهرباء، محمول يا حسن محمول وشاحن.. لا يمكنني مسامحتك على هذه العملة السوداء!

وفي النقطة ذاتها يبدو أن السيد إيلان داساني وهو المشارك في الكتابة والإنتاج والإخراج كان مسؤولاً بشكل أو بآخر عن ترسيخ نظرة استشراقية نمطية تجاه الجن والشرق، إذ يقول في المقابلة إياها مبرراً اختيار الجن لعمله النتفليكسي "العربي" الأول: "الجن بالذات لكونه مكوناً رئيسياً في فولكلور وثقافة وتراث شعوب منطقة الشرق الأوسط، وكل إنسان في العالم العربي لديه قصة مثيرة أو حكاية أسطورية غامضة عن الجن، في الأردن أو لبنان أو السعودية، وهو جزء مهم من الثقافة العربية القديمة والحديثة". يا داساني يا حبيبي لعلك لا تعلم أننا تركنا ركوب الجمال منذ عهد بعيد فنحن الآن نعيش في مدن ونركب السيارات ونشاهد نتفليكس!

ملاحظة قبل الختام لا علاقة لها بالعمل بقدر ما تتصل بما أثير حوله، فقد بدا واضحاً أن النواب والإعلام ورجال الدين ونقابة الفنانين بحاجة إلى دورات تثقيفية بماهية الشبكات التلفزيونية العالمية والتلفزيون تحت الطلب، ليتوقفوا عن إطلاق دعوات منع البث وإيقاف العرض والمحاكمة والتخوين والتجريم.. كما أن عليهم التروي قبل إطلاق صفات "الجنسي والإباحي"، حتى لا يدعو عليهم من جذبته اتهاماتهم لمشاهدة العمل ثم لم يجد فيه لا جنساً ولا إباحة!

ولأن العتب على قدر خيبة الأمل وما كنا ننتظر، فإن المسلسل افتقر للحبكة الذكية وعجّ بالمشاهد غير الدالّة، وافتقر للكثير ليكون بحجم مدينة البتراء وليكون العمل العربي الأول المنتظر من شبكة عالمية كنتفليكس، واستمرار حملات المهاجمة بدوافع أخلاقية ودينية يساعد المسلسل حتى الآن على الانتشار والإفلات من المحاكمة الفنية المستحقة.