آليات نقع السجين في سورية

آليات نقع السجين في سورية

12 يونيو 2019
+ الخط -
حينما يأتي الحديث - في جلسات الإمتاع والمؤانسة - على سيرة السجون والمعتقلات أكون أنا من بين الأصدقاء الذين يشاركون في رواية بعض الحكايات والمواقف، وهذا الأمر أثار استغراب ضيفنا الجديد "أبو بدر" الذي سألني عن مصدر كل هذه المعلومات التي أعرفُها رغم أنني لم أُعتقل طيلة حياتي.

قلت لأبو بدر: كلامك صحيح. أنا ما دخلتْ سجنْ، ولا معتقلْ، وسيرتي النضالية تقتصر على الاستدعاءات الأمنية اللي ارتفعِتْ وَتِيْرِتْها بعد سنة 2000 لأني تجرأتْ ووَقَّعْتْ على "بيان الألف" اللي بيتضمن الدعوة لإحياء المجتمع المدني في سورية. يعني إذا طَبَّقْنَا طريقة أخونا أبو إبراهيم في موضوع (المَقَامات)، وكان في مَضَافة لزوار السجون، أكيد أنا بقعُدْ في آخر المضافة مع جماعة اللي توقفوا ساعتين وتعرضوا لـ َسِيْنْ وجيمْ، وطبعاً بيقعدْ في صدر المضافة اللي مضوا 25 سنة في السجون، واللي بيخجل "نيلسون مانديلا" بجلالة قَدْرُو إنو يقارن نفسو فيهُم! لاكن أنا، في الحقيقة، كتير قريب من أوساط الأشخاص اللي دخلوا المعتقلات في سورية، وكل شي قصص وحكايات بيحكوها أنا بعرفها، لأني سمعتها منهم في لقاءات متنوعة.. والدليل أني أَلَّفْتْ كتابين عن هالحكاياتْ، الأول هوي "حكايات سورية لها علاقة بالاستبداد" والتاني هوي "كوميديا الاستبداد".. وإذا بتحبوا أحكي لكن طرفة صارت معي بهالموضوع أنا جاهز.

قال أبو إبراهيم: طبعاً منحب.


قلت: أنا مرة كنت في الشام، والتقيت مع أربعة أصدقاء من حزب العمل الشيوعي، وهدول الأربعة كانوا مَنْقُوعين سنوات طويلة في تدمر وصيدنايا بعهد حافيييظ الأسد ووريثو. وتاني يوم التقيت بأصدقاء آخرين، كان واحدْ منهم موجودْ في نفس المكان اللي كنت أنا فيه البارحة. هادا الصديق ضحك وقال للآخرين: مبارحة شفت "أبو مرداس" قاعدْ مع أربع أشخاص ممضّين في السجون تمانين سنة!!

ضحك الحاضرون وقال أبو إبراهيم: في شغلة أنا ما عَمْ إِحْسِنْ إفْهَمْهَا. إنو شلون أربع أشخاص مضوا تمانين سنة؟ على علمي كان أعلى حكم يطلع عن محكمة أمن الدولة هو الإعدام. بيجي بعدو المؤبد. بيجي بعدها أعلى حكم 15 سنة. فكيف في ناس يبقوا عشرين سنة أو أكتر؟

قال أبو زاهر: أول خطوة بيمر فيها الإنسان السوري اللي بيستهدفو نظام حافييييظ هيّ "الاعتقال" في فرع الأمن. وهاي بتكون مدتها طويلة أو قصيرة بحسب مزاج رئيس الفرع الأمني اللي هوي معتقل فيه، وعالأغلب هاي المدة ما بتنحسب ضمن الحكم. يعني فيك تسميها (إكراميّة) من هالسجين للوطن الغالي. بعدين، ع الأغلب، بِيْحَوّلُوهْ عَ فرع فلسطين، اللي بيقعد فيه فترة طويلة، ممكن تتجاوز السنة.. ولما بينعرض ع محكمة أمن الدولة بيقرا القاضي العسكري ملخص إضبارتو، وما بيحكمو بناء ع المعلومات الموجودة في الإضبارة طبعاً.

قال أبو جهاد: أفّ! لكان بيحكمو بناء على أيش؟

قال أبو زاهر: بناء على الجملة اللي بتطلع معو بهديك اللحظة. ممكن يقلك عشرة سنين. ممكن يقلك خمسطعش سنة. يعني على تيسير الله! وكمان هادا الحكم مو ضروري يتنفذ متلما هوي!

قال كمال: شلون يعني؟

قال أبو زاهر: يعني المعتقلْ بيروحْ ع سجن تدمر، أو سجن صيدنايا، وبيمضي الحكم تبعو، وإما بيحسبوا لو مدة التوقيف بفرع فلسطين أو ما بيحسبوها، ونادراً ما تلاقي سجين بيغادر السجن فور انتهاء مدة حكمو، والأغلب إنو ينقعوه عدة أسابيع، أو عدة أشهر، أو عدة سنوات.. زيادة عن استحقاقو!

صفر أبو محمد وقال: سنوات؟ معقولة يبقى (سنوات) زيادة بعدما ينتهي حكمو؟

قال أبو زاهر: مو بس معقول. هادا هوي الشي اللي كان يصير. وأحياناً بيطلبوا من أحد السجناء يجهز نفسه لإخلاء سبيلو، وبينقلوه من السجن اللي كان (منقوع) فيه إلى أحد مقراتّ المخابرات في العاصمة دمشق، تمهيداً لإطلاق سراحو..

قال أبو محمد: أي؟ وهدول أيش بيساووا في؟

قال أبو زاهر: كمان بينقعوه عندن شوي. ممكن شهرين تلاتة، وممكن سنة. وبعدين بيصيروا أمام خيارين. يا إما بيبعتوه ع الفرع اللي اعتقلو، في محافظتو، منشان الفرع اللي اعتقلو هوي اللي يخلي سبيلو، يا إما بيرجعوه ع السجن اللي إجا منو، وبيقولوا له:
- خيو! بدك الصراحة؟ كان جاية على بالنا نطلق سراحك، وبعدين بَطَّلْنا! إنته أخو كيفنا؟!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...