كلّه إلا سامية!

كلّه إلا سامية!

10 يونيو 2019
+ الخط -
وسَّع ما بين هدبيه، ومن غير إحم ولا دستور، رمى علينا قنبلة حارقة خارقة متفجرة متشظية، وقال "قفلة المخ لها ناس!"، قالها بثقة مبالغ فيها، ثم أجال طرفه في السهارى من حوله يستبين الأثر، ويستقصى ما تركت في نفوسهم من عبر، وامتلك عِنان الحديث ودار به ولاب.

أطلت البلاهة من وجوه بعضهم، وتصبَّب آخرون عرقًا، وانفلت لسان سلمان الشيخ من معقله، وقال له: "وإيش السالفة؟ عطنا القصة، لا تعلِّقنا وترمي لنا ألغاز يا حمادة"، وكان حمادة لطفي ينتظر هذه الجملة، وشكَّل براحتيه هرمًا قبالة صدره، يريد أن يوحي لنا بالثقة وينفش ريشه!

تنحنح حمادة ومال برأسه زاوية حادة إلى اليمين، وطافت عينه في الوجوه دورة فاحصة عجلى، وصمت قليلًا جذبًا للأنظار وإثارة للانتباه، ثم قال: "غريبة الناس، ما بتتعلم من أخطائها، وكل يوم.." لكن سلمان -هداه الله- قاطعه قائلًا: "إيش رأيك تعطينا الزبدة؟ يا حمادة يا حلو! على قولتكم يا مصريين.. إديني الزيتونة، هات م الآخر"؛ لينفجر المجلس تهليلًا وتكبيرًا وضحكات حتى من تحت الأظافر، ويجد حمادة نفسه مرغمًا على حذف المقدمات، والغوص في نخاع الموضوع.


وكان أن قصد إلى كبد المسألة وطحالها -وألف سلامة لطحال الأستاذة سمية الخشاب- وقال: أنا بس صعبان عليَّ جورج غالاوي! الرجل المحترم، أقسم بالله محترم، محترم بمعنى الكلمة، لا.. ده محترم بكل معاني الكلمة، بل رمز الاحترام، ووقف هنيهة وشرب كوبًا من الماء؛ ليوحي لنا بخطورة الموقف، ولم يعبأ بإلحاح سلمان أن يُنجز، وأن يشخص ويلخص، لكن الكثرة الغالبة من الحضور ما إن سمعوه يذكر اسمًا أجنبيًا حتى أدركوا أنه سيسرد قصة كاملة المؤثرات، وربما يخرج هيتشكوك من قبره ليجسدها في فيلم من روائعه.

واستأنف حمادة ما انقطع من حديثه، وإن لم يكن قد أسمعنا غير جملتين؛ قفلة المخ لها ناس وصعبان عليَّ جورج غالاوي، ليكمل: بعد مباراة ليفربول وتوتنهام في ملعب "واندا ميتروبوليتانو" في مدريد.. مال الجنابي عليَّ هامسًا "بيحكي لنا تفاصيل المباراة؟ تكفى بلغه أننا شاهدنا المباراة، وليوجز فالبلاغة الإيجاز أو نقوم نمشي". وقرأ حمادة تبرمهم وإن كانت على رؤسهم الطير، وقال بشكل مباغت: جورج غالاوي فصلوه من شغله!

وحبس القوم أنفاسهم، ولم يتوقف حمادة حتى لا يثوروا في وجهه؛ فأردف قائلًا: والسبب إسرائيل! وما إن قال إسرائيل حتى امتقع لون الحاضرين، وسألوا في نفس واحد: ليه؟ وأضاف الجنابي: لا تقول السامية! فأجابه: هي! اتهموه بمعاداة السامية، من يومين اتهموا موظفة في الجزيرة بمعاداة السامية، والنهاردة جورج غالاوي، الواحد هيطلع من هدومه.

وقبل أن يطلع حمادة من هدومه أو يخرج عن طوره، كان الجميع يخوض في قصة غالاوي، ومسببات اتهامه بمعاداة السامية وفصله من عمله. وصفوة القصة أن غالاوي ويعمل مذيعًا بإذاعة "توك راديو" قد غرَّد بعد المباراة ممتدحًا فريق الريدز، ثم قال بالحرف الواحد "لا أعلام إسرائيلية في الكأس"؛ فتكاثرت التأويلات وبدأت رحلة التفتيش في الخلفيات، وهوجم غالاوي هجومًا حادًا، وهاجمه نادي توتنهام بتغريدة عبر صفحته الرسمية جاء فيها "هذه معاداة للسامية بشكل صارخ".

ألغت الإذاعة برنامج غالاوي الأسبوعي، واسمه "ذا موذر أوف أوول توك شو"، وعمر البرنامج ثلاث سنوات، وفي بيانها حول حيثيات إلغاء البرنامج، قالت الإذاعة: "كمنبر لتقديم الأخبار في شكل متوازن وحيادي ومنصف لكل الأطراف، لا يتسامح توك راديو مطلقًا مع الآراء المعادية للسامية"، وعلَّق غالاوي على ما جرى بتغريدة أخرى يقول فيها -وفي نفسه حسرة لاعجة- إنه حصل على بطاقة حمراء من الإذاعة لاحتفاله المفرط بفوز ليفربول.

لكن لماذا ربطوا بين الأعلام ومعاداة السامية؟ عاد الميكروفون إلى حمادة ليدلي بدلوه في هذه المسألة، وبعد أن أخذنا عليه العهود والمواثيق أن يعطينا المعلومة مركزة؛ فإذا به يقول عجبًا ويسوق دررًا، قال إن غالاوي يناصر القضية الفلسطينية، -عندها قلت في نفسي أين أنت يا عبد الحميد الحكيم ترى وتسمع، البريطاني يدافع عن فلسطين والعربي يدافع عن إسرائيل، والدنيا فيها العجب- ثم أفقت من سرحتي لأتابع قصة غالاوي.

قبل أربعة أعوام، ألقى غالاوي خطبة عصماء نادى بمنطقة خالية من إسرائيل، وقامت الدنيا على رجل، وحققت الشرطة مع غالاوي واتهمته بالعنصرية، وقبلها بعام اعتدى عليه متعصب يهودي يدعى نيل ماستيرون (39 عامًا)، ووصفه ماستيرون بالنازي، وذلك لدفاع غالاوي على فلسطين وأهلها ضد الاستعمار الإسرائيلي. يومها لم يكن غالاوي مواطن عادي، بل كان نائبًا في البرلمان البريطاني، ولم يدخل غالاوي البرلمان من بوابة المحافظين ولا العمال، إنما من بوابة حزب "الاحترام"، وهو حزب أسسه غالاوي مع آخرين، ومن خلاله اكتسح في مارس/آذار 2012 منافسه على كرسي دائرة غرب مدينة برادفورد. كان فوز غالاوي هزيمة قاسية لحزب العمال لسببين؛ فإن حزب العمال اعتاد الجلوس في مقعد غرب برادفورد 38 عامًا متواصلة منذ 1974.

ومع إن غالاوي تقدم منافسه بنسبة عالية، بلغت حوالي 10 آلاف صوت، لكن السبب الثاني والمهم، ضاعف مرارة حزب العمال وعذاباته؛ فإن غالاوي بالتحديد -وليس أحد غيره- اقتنص الكرسي، وهو نائب سابق في جزب العمال، وقد طرده الحزب عام 2003 لأنه عارض حرب العراق وانتقد سياسة الحزب في قبول الحرب.

وقبل عامين من فوزه بالانتخابات، طُرد غالاوي من القاهرة، وقالت الخارجية المصرية إنه شخص غير مرغوب فيه، ورحّلته إلى مطار هيثرو، وسبب ذلك إن غالاوي هاجم الرئيس مبارك، ووصفه بالمجرم والمتواطئ مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي ضد غزة، وقال إن مصر تستحق رئيسًا مثل رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان؛ فمُنِع من دخول أم الدنيا. كذلك فإن غالاوي يمتلك -منذ فبراير/شباط 2009- مؤسسة خيرية تدعى Viva Plastina مهمتها تقديم المساعدات إلى غزة، ومن ثمَّ فإن أيَّ كلمةٍ يُدلي ولها شبه علاقة بإسرائيل سيجري تكبيرها بتلسكوب "سوبر هابل"، وستُعد عليه أنفاسه!

قال بعضهم مُلغِزًا: من خاف سِلِم، والسمكة اللي قافلة بقها ميصيدهاش صياد، وغالاوي ده بَجَم، ما استفادش من سيرة المتنبي ولا ابن المقفع، ولا تمعن في مصير هيلين توماس وجيم كلانسي وجيم كاريتون وتيم ويلوكس، ولا أي حد من اللي رموا أنفسهم في الخية، وصدق من قال "يداك أوكتا وفوكَ نفخ"، وقالوا "قتيل إيديه ماتحزنش عليه"، و"على أهلها جنت براقش"، ومن التغريدات ما قتل! قالها ثلاثًا ثم شرب.

خيم الصمت برهة، ثم التقط أحدهم حبل الكلام -بعدما انقطع خيط الحديث- ونطق هبدًا فقال: تصدقوا بالله! مع إني بحب الرقص الشرقي، وسامية جمال لها عندي مكانة خاصة، لكني بطلت أشوف أفلامها أو أتفرج على رقصها! وتبادلت العيون وكتمت ضحكاتها حفاظًا على مشاعره وإيذانًا له في متابعة هبدته، وواصل صاحبنا: أنا بقيت أرجف من كل حاجة فيها سامية، حتى ماما سامية وبرنامجها "عروستي" محبيتوش، أو للاحتراز متابعتوش، ده أنا حتى لما بسمع عن حد إن أخلاقه سامية ببعد عنه، أنا بقيت أخاف آكل البامية!

وطفرت الدمعة من عين صاحبنا، وشكله هيقلبها غم وينكد علينا، وقام إليه حكيمنا الجنابي، ولاطفه حتى غابت دمعته بين ضحكاته، وقد تعاهد القوم -ضمنيًا- أن يقاطعوا سامية جمال وماما سامية والبامية، وكل على ليلاه غنى، ولسان الحال للبيت ربٌّ يحميه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.