درس كوشنر.. وقح لكن واقعي؟

درس كوشنر.. وقح لكن واقعي؟

10 يونيو 2019
+ الخط -
هل كان الفلسطينيون- قيادةً وقادة فصائل- بحاجةٍ إلى الخِطاب المُهين لجاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حتّى يستوعبوا أنّ ما يفعلونه بأنفسهم، من انقسامٍ وتجريح وتدمير ذاتي، يُسيء لهم ولشعبهم، بحيث باتوا في نظرِ العدو الصّهيوني ومؤيّديه، قاصرين لا يُمكنهم حُكم أنفسهم؟

لكن هذا الخِطاب، يقعُ بوطأةٍ أكثر، على آلاف الكوادر الفلسطينية المُثقفة والمؤهّلة، المُستثناة من شغلِ المناصب الحكومية العليا لأسبابٍ شتى، والّتي لو تمّ استغلالها لصنعتْ فارقًا، فبعد ربع قرن من عمر السلطة، تمّ تهميش وعزل الكثير من الخِبرات في أوساط الشعب الفلسطيني، الأمر الّذي يؤدّي إلى تثبيطها، أو دفعها نحو الهجرة، وآخر مثال على ذلك، الطبيب البروفيسور سليم حاج يحيى، أحد أهم الجرّاحين في العالم، وهو من طوّر مستشفى النجاح الوطني، لكن في المقابل، تمّ التآمر عليه وعزلهِ، من قبل المُتنفذين، وليس وحده، بل معهُ مئات الكوادر الغزّية، التي يُفترض أنّها على رأسِ عملها، بحسب قرار رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق سلام فياض.

في العديدِ من الحالات، يكونُ الاستغناء عن الخبرات المؤهّلة، بحجّةِ الانتماء السياسي؛ أي التّشكيك في الولاء للمؤسّسة الحاكمة، فصارتْ عقيدة الولاء والبراء، نهجًا يعتمدهُ طرفا الانقسام في المؤسسات الحكومية، وبالتالي أصبحت هذه العقيدة علمانيةً أيضًا، لا إسلامية فقط، في التعيينات والترقيات.


هل كان يجب أن يطلق كوشنر تلك العبارات -المُستعارة من القاموس الصهيوني الذي يُنكر الوجود الفلسطيني تاريخًا وحضارة- كي تعلم القيادات الفلسطينية في رام الله وغزة، كم أخطأوا بحقِّ أنفسهم وشعبهم، الذي أثبتَ على الدوام، بالدماء والعذابات والتّشرد أنّهُ يستحق مكانًا تحت الشمس، وبين الأمم، كم أخطأ أولئك المُتشبّثون بكراسي الحُكم، بحقِ شعبهم وتراثه النضالي، كواحدٍ من أكثر الشعوب العربية الخلاقة والمُتعلمة.

في الحقيقة القيادات الفلسطينية، لا تعلمُ أنّ ما يقوله كوشنر، هو ما يردده الكثير من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، شبابًا وشيوخًا، بل بعد هذه التجربة الفاشلة في الحكم في كلتا الحالتين؛ العلمانية في الضفة، والإسلامية في غزة، اللتين تُمثلان نموذجين لا يتفقان مع طموحات الشعب الفلسطيني، الذي انتظر نظامًا فلسطينيًا، يُنافس نظام الحكم لدى عدوّهم الصهيوني ودولته إسرائيل، فالمنافسة مع العدو في هذا المجال، نضالٌ بحدِّ ذاته، كانوا ينتظرون نظامًا ديمقراطيًا، أبرز سماتهِ العدالة.

بدأ النظام السياسي الفلسطيني مع قدوم السلطة، بدايات ديمقراطية مُشجعة، واستمرَّ حتى عام 2007، لكن الانقلاب/ الحسم العسكري -الوصفان سيّان- قَلبَ الواقع الفلسطيني، وأوقف كل الحياة السياسية وشتتها، وفي غياب المجلس التشريعي على إثره، أنهى الرقابة على القوانين، وعلى أداء الحكومة، انعدمت الحياة السياسية في شطريّ بقايا الوطن الفلسطيني، وتحوّل الوضع الفلسطيني إلى ما يشبه أنظمة العرب الاستبدادية.

كل ذلك، وما زال الشعب الفلسطيني، يعيشُ تحت براثن الاحتلال. بل إنّ المآخذ الكثيرة، الّتي تُثار بين الأغلبية الفلسطينية، تتمثّل في المقارنة بين ما تعيشه الطبقة السياسية المُترفة، وواقع الأغلبية الساحقة من الشعب، فأقلية حاكمة (برجوازية وطنية) في غزة ورام الله، تعيشُ حياة "رغيدة"؛ رواتب عالية بزيادة غير قانونية، وامتيازات فوق الخيال، وأغلبية شعبية مسحوقة تعيش على الكفاف، تُقمع إذا صرخت: "بدنا نعيش"، تُكسر عظامها، وتُزجُّ في السجون.

لكن ورغم هذا الحال، الّذي ساهم فيه المُحتل الصهيوني، مع سبق الإصرار، حتّى يقول كوشنر وغير كوشنر ما قال عن الشعب الفلسطيني، إلّا أنّ ما نعيشهُ اليوم من انقسام، وبالتالي فشل سياسي، ليس قدرًا على الشعب الفلسطيني، فهذه القيادات المُترفة والمتنكّرة للديمقراطية، وهذه الفصائل المتناحرة، لا تُمثّل الشعب الفلسطيني، فالحكومات والزعماء في كل دول العالم -ومنها تلك الديمقراطية- بينهم من ينجح ومن يفشل، النزيه والفاسد، لكن ذلك هو قشرة خارجية زائلة، ولا يمكن القول إنّ فشل نظام حكم، أو حكومة، يعني أن الشعب لا يستطيع حُكم نفسه بنفسه.

يَنطلقُ الصهيوني كوشنر من منطلقات أيديولوجية عنصرية، تُقدّس الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ولأرض سورية؛ هضبة الجولان المحتل، فما تفوّه بهِ، ليس إلّا تعبيراً عن نظرةِ حاخامات الصهيونية، المُتخمة بالفوقية العنصرية، والكراهية للعرب والمسلمين والمسيحيين، وكل ما عداهم من أممٍ دينية، الّذين ينظرون إلى شعب فلسطين والعرب عامةً، كحشراتٍ وأفاع، على حد قول حاخامهم الأكبر إسحاق يوسف.

الشعبُ الفلسطيني ليس قاصرًا، بل واحد من أوعى شعوب المعمورة، كان قبل احتلال بلاده عام 1948، الأكثر تطورًا وتقدمًا بين شعوب المنطقة، وما زال كذلك، فهو الشعب العربي الأكثر تعليمًا. تقريرُ المصير، تُحدّده الشعوبُ بإرادتها الحرة، كانت هناك غشاوة ضلّلتْ العيون؛ اعتقاد بالعدالة دولية، وقَبِلَ بها الفلسطينيون وحُدودِها الدُنيا، لكنّهم لم يُفرطوا بحقهم بالعودة، ولا بمقدساتهم، ولا حلمهم بدولة مستقلة ذات سيادة.

كان هُناك أمل أن تكون الولايات المتحدة -الّتي أسقطتْ أنظمة باسم الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية- منحازةً للإنسانية في إنهاء آخر احتلال ما زال قائمًا، بعد أن تحررتْ أغلب الشعوب، لكن الولايات المتحدة، المحكومة بالصهاينة، ترفضُ إلّا أن تكون منحازة. من أكبر الكوارث، أن من يحكُم أهم دولة في العالم، مجموعة من المهووسين الدينيين، فالهوس الديني، لا يرى قوانين دولية ولا إنسانية، ولا منطقاً أو عقلاً، يتعصّب لقضايا إيمانية غيبية، ضاربًا بكلّ ما لا يراه حقيقةً عرض الحائط، والادّعاء بمعرفة الحقيقة المُطلقة تعني عمى كاملاً، لا رؤية بعدها، ولا بصيرة.