خارطة الطريق بين الشهوة والشهيّة (2 ـ 3)

خارطة الطريق بين الشهوة والشهيّة (2 ـ 3)

11 يونيو 2019
+ الخط -
تلاحظ الروائية التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي في كتابها الممتع (أفروديت)، أنه على الرغم من أكوام كتب الطبخ المنشورة سنوياً حول العالم، فإن ما تمت كتابته عن تأثير حاسة التذوق على الشهوة والشهية قليل جدًا، ربما لأن تعريف التذوق صعب صعوبة الإمساك بالرائحة، "كلاهما روح له حياته الخاصة، شبح يظهر دون دعوة من أحد ليفتح نافذة على الذاكرة".

تتشكك إيزابيل الليندي في تأكيد العلماء الدائم على وجود 4 مذاقات فقط هي الحلو والمالح والمر والحامض، وإلا كما تتساءل إيزابيل: "فكيف نصنف مذاق الخوف المعدني وطعم الحسد الرمليّ أو زُبْد القبلة الأولى... إن المذاق يتشارك مع الجنس أكثر بكثير مما يرغب المتزمتون، فللجلد ولانحناءات الجسد والإفرازات مذاقات قوية محددة وشخصية تماما مثل الرائحة، قليل ما نعرفه عنها لأننا فقدنا عادة تبادل المذاق والشم. مازلت أذكر طعم صمغ المضغ والتبغ والبيرة في قبلتي الأولى، منذ أربعين سنة بالضبط، مع أنني نسيت وجه البحار الذي قبلني"، وعلى عكس إيزابيل الليندي، لم أنس وجه أول فتاة قبّلتها ولا طعم تلك القبلة المدوِّخ لي على الأقل، ولم أنس أبداً ـ وكيف لي أن أنسى ـ طعم (كشري الونش) الذي أكلته بعد تلك القبلة، فماذا عنك؟

سيرة التذوق والمذاقات قادت إيزابيل الليندي إلى تذكر التوابل "التي كانت في أزمنة لم يكن فيها ثلاجات أعلى قيمة من الذهب"، والتي لا تراها إيزابيل فقط وسيلة لتطييب الطعام بل شراباً سحرياً للحب، حين تُخلط بأعشاب عطرية تحسن الطعام، كما تراها أيضاً "روح المطبخ، ليس لأنها تُحوِّل أي صحن إلى طاقة أفروديتية وحسب، بل لأنها تغطى على عيوب الطبخ وأخطائه، فالرائحة الكريهة بسبب الحر في المطبخ الهندي يتم التغلب عليها بالكاري"، ولو زارت إيزابيل عربات السجّق والكبدة المضروبة في شوارعنا، لاستشهدت أيضاً ببراعة أصحابها في استبدال الكاري بأكبر قدر من الفلفل الأخضر الحرّاق، الذي لا يدع فرصة للزبون في التساؤل عن طبيعة الحيوان المغدور الذي يأكل كبدته وسجّقه.

رد الاعتبار للينسون والبقدونس

إذا كنت من هواة التردد على دكاكين العطارة أو التركيز مع باعة الأعشاب المرابطين أمام المساجد الكبرى، فلن تحتاج إلى قراءة قائمة الأعشاب الشهوانية التي تسردها إيزابيل الليندي مع ذكر الفوائد المتينة لكل عشب منها، والتي ويا للعجب يأتي الينسون على رأسها، حيث تصفه إيزابيل بأنه "إذا ما أُفرط في شربه سبّب الجنون والموت، قائلة إن الينسون يستخدم "في كثير من بلدان الشرق الأوسط لإثارة الحب عند المتزوجين الجدد ولعلاج العجز الجنسي"، وهي معلومة تناقض كل ما سمعناه طيلة حياتنا من أصدقائنا على المقاهي، فور قيام أي منا بطلب "كوباية ينسون"، أو "يتذكرون" كما يسخر منه الجميع ناسبين إليه آثاراً فورية مثبطة للشهوة، على عكس ما تقرره إيزابيل التي لا أنصحك بالمخاطرة بتصديقها قبل المزيد من البحث.

في القائمة ذاتها ستخبرك إيزابيل أن الحلبة تلهب العواطف الدنيا ـ دون تأكيد ما إذا كانت تقصد الحلبة الحصى التي تقلب رائحة البول والعرق أم تقصد نبات الحلبة الذي يصنع اليمنيون منه أكلة السلتة اللذيذة ـ وأن للزعفران فضيلة الإثارة في الشرق، وأن الهيل الذي يستخدمه العرب مع القهوة يثير الأريحية بين الأصدقاء ـ وهي عبارة غامضة خصوصاً أن إيزابيل لم تقم بتعريف طبيعة الأريحية التي يثيرها الهيل ـ وأن النعناع مقوِّ جنسي للرجال متوسطي الأعمار، وأن الخردل المدهون وسيلة ناجحة لعلاج العجز ـ بالتأكيد لا تقصد المسطردة التي تصنعها شركة هاينز لكي لا يتورط البعض في ما لا يُحمد عقباه ـ وأن جوزة الطيب المطحونة فعالة جداً ـ هكذا دون تحديد لطبيعة الفعالية وإن كان ذلك من المعلوم في ثقافتنا الشعبية بالضرورة ـ وأن الزعتر البري الذي يوضع في المغطس المشترك مع النصف الآخر مفيد جدًا إن استطعت إلى المغطس المشترك سبيلاً، وأن الفلفل الأسود يدخل السرور على الأرامل ويخفف من العجز الجنسي عند الخجولين، وأن البقدونس يمكن أن يستخدم كشراب سحري للحب أو بلسم لدهن الجسد أو حتى كأداة لمداعبة المحبوب، مع أننا لا نستخدمه إلا لنزح الدهون عن الكفتة والطّرب، فيا لضيعة البقدونس في حياتنا.

ومن التوابل بكل ما يثير ذكرها من إثارة، تنتقل إيزابيل مباشرة للحديث عن الحفلات الماجنة، كاشفة أن إدراكها للحفلات الماجنة لأول مرة بدأ حين كانت مقيمة مع أمها وزوج أمها في بيروت، حيث اكتشفت أن زوج أمها كان يخطط لحفلات ماجنة فقيرة، كان يستمد تفاصيلها من المجلدات الأربعة لكتاب (ألف ليلة وليلة) التي كان يخبئها في خزانته، وهو ما اضطر إيزابيل المراهقة لصنع نسخة من مفاتيح الخزانة، لاختلاس كتب الليالي التي عاشت معها منذ تلك اللحظة "أحلام الفجور المرتبطة بحدائق بلاد العرب والجواري والقيان والمحظيات والشعر"، لتشير في موضع آخر من كتابها الذي يمتلئ باقتباسات استشراقية لا تليق بكاتبة مثلها، إلى أن قصص الحريم التي قرأتها في (ألف ليلة وليلة) جعلت أقصى أمنياتها في المراهقة أن تكون "الزوجة الرابعة لمليونير عربي يقدر خلفيتي ويسمح لي بأن أقضى حياتي وأنا أتناول الشوكولا وأقرأ الروايات، لكن الحركة النسائية أنقذتني من خيالي"، وبرغم ذلك لم تفقدها الحركة النسائية رغبتها في التخطيط لإقامة حفلات ماجنة، والتفكير في تنفيذ وصفات خاصة لطعام تلك الحفلات، والتي قدمت لها نموذجاً في وصفة طبيخ العمة بورخل التي وردت في ثنايا روايتها البديعة (إيفالونا) والتي ترجمها إلى العربية الأستاذ صالح علماني.

رأس الأخطبوط وعين السقنقور

من الحفلات الماجنة ووصفاتها الخاصة، تنتقل إيزابيل الليندي إلى الحديث عن تعدد أذواق البشر الذي لولاه لبارت أطعمة أكثر إثارة للأعصاب والشهوة، مثل التماسيح والثعابين والعناكب، تقول إيزابيل: ".. يدخل الطعام كما الشهوة عبر العين، إنما هناك أناس قادرون على الدفع بأي شيئ إلى أفواههم. في ساموا مثلاً، الأخطبوط الحي صحن ناعم جدًا يضعونه في وجهك ويتركون مجساته تلتف حول الرأس في عناق غير إرادي، بعدها يعضّون مخطم الحيوان ويمصونه في قبلة موت طويلة، حتي يفرغوه من محتواه".

لا أريد أن أقلب بطنك بعشرات الحكايات التي ترويها إيزابيل عن آكلي الأفاعي البحرية والبرية والجرذان والنمل المقلي والعنكبوت القنفذي والضب الأفريقي ولحم جببن الحصان المخلوط بدم المحبوب ومخ القردة بل وحتى التماسيح وأفعى الأناكوندا، وكلها أكلات مرعبة لا تطيل إيزابيل في شرح ارتباطها بالشهوة مهدئة من روع قرائها بقولها: "لن أدخل في التفاصيل لأن هذا الكتاب ليس كتاب كوابيس، بل شهوة ومطبخ. وإذا كنتِ ممن يعتقدن بثقة بفضائل الأشياء المرعبة السحرية، فإنني أقترح عليك أن تفعلي ذلك على انفراد ودون الجهرية"، ليذكرني كلامها بكثير مما سبق أن قرأته في كتب التراث العربي عن الفوائد الجنسية المضمونة والمرتجاة من أكل ذيل الذئب ولسان الأسد ومرارة العصفور وعين السقنقور الذي اكتشفت أنه ليس كائناً خرافياً كالتنين، بل هو سحلية صحراوية تدفن نفسها في رمال الجزيرة العربية، وهو ما يجعل الوصول إليه أسهل من الوصول إلى الذئب والأسد، ولذلك يروج سوقه لدى من يفضلون الحلول "العضوية" لمشاكل أعضائهم.

لا تترك إيزابيل الليندي منطقة التذوق والمذاق، قبل أن تتحدث قليلاً عن اللسان وكلام اللسان وارتباطهما بالشهوة، قائلة: "نحن النساء حسيتنا مرتبطة بالخيال والعصب السمعي، ربما كانت الطريقة الوحيدة لحملنا على الإصغاء هي الهمس في آذاننا، فنقطة الـ(ج) موجودة في آذاننا، ومن يبحث عنها في الأسفل يضيع وقته ووقتنا... إن الأفروديتية الوحيدة بالنسبة للمرأة هي الكلمات.."، ثم تستشهد للتأكيد على ذلك بمقطع بديع من رسالة حب في روما الكلاسيكية من كاتولو إلى لسبيا جاء فيها ما يلي: "أعطني ألف قبلة ثم مئة، بعدها ألفاً أخرى ثم مئة ثانية ثم ألفاً، ثم مئة، وبعد جمع الآف كثيرة نخلط الحساب كيلا نعرفها، وكيلا يستطيع أي عاذل أن يصيدنا بالعين حين يعرف أننا تبادلنا هذه القبلات كلها".

"ليلة في مصر"

إن كنت مواطناً صالحاً وحسن النية، ستكون فخوراً لأول وهلة حين تقرأ هذا العنوان المنشور بالبنط الحيّاني داخل كتاب إيزابيل الليندي، بوصفها كاتبة ذائعة الصيت واسعة الانتشار عالمياً، وبالتالي سيساهم ما تكتبه في تحسين حركة السياحة الوافدة إلى مصر التي ربما كانت هي الدولة الوحيدة في الكون التي يحتاج المواطن فيها إلى إعلانات دائمة تنبهه إلى أن السياحة خير له ولأهل بلده، ليتوقف عن التحرش بالسياح والنصب عليهم وتطليع أديانهم، وهو ما ستتذكره فور قراءتك لذلك الفصل، الذي لن تجد فيه ما يجذب أحداً لزيارة مصر باستثناء بعض السائحات السايحات الراغبات في التعرض للاختفاء والإطعام القسري، وهي نسبة لا أعتقد أنها يمكن أن تؤثر كثيراً بالإيجاب في الدخل القومي لمصر.

في ذلك الفصل القصير من كتابها والغريب على سياقه أيضاً، تحكي إيزابيل الليندي قصة حدثت لصديقتها تابرا التي لا تمل من التنقل والضياع في كافة أنحاء العالم، وردت في رسالة أرسلتها تابرا إلى إيزابيل عام 1990، قالت إنها تكتبها من منطقة من مناطق مصر السفلى لا تعرف أين هي بالتحديد، لأنها وصلت إليها عقب رحلة انطلقت من القاهرة، تشجعت للاشتراك فيها، بعد أن سمعت كثيراً عن جمال تلك الرحلة، التي قادها دليل شاب عرض نفسه عليها في المطار، ومثّل لها نموذج الرجل الذي يشدّ من أول نظرة، وقد قبلت عرضه لأنه على حد قولها "في مصر لا تستطيع أمرأة أجنبية أن تسير وحدها دون دليل، لا يتركونها بسلام" ـ بالتأكيد أنت تعرف أن هذه العبارة مغرضة وغير صحيحة وتصحيحها أنه في مصر لاتستطيع أي إمرأة أيا كانت جنسيتها أن تسير وحدها بسلام ـ

المهم، عرض ذلك الشاب المصري واسمه محمود على تابرا أن يأخذها إلى قرية نوبية صغيرة على حدود الصحراء (!)، فوجدت نفسها في رحلة مضنية لمدة ساعتين مع 4 من أقارب دليلها "السعيدين بممارسة لغتهم الانجليزية السيئة معها"، وعندما وصلوا إلى القرية قال لها محمود إنها الأجنبية الأولى التي تطأ المكان، فشعرت تابرا بارتياح، وظنت أنها ستكون محظوظة لحصولها على المغامرة التي رغبت بها، خصوصاً بعد أن خرج حشد من النساء والأطفال خرجوا لاستقبالها وأخذوا يتفحصون أساورها ويداعبون ذراعيها "متعجبين من بشرتها البيضاء ولون شعرها" (!!) وعندما أصرت تابرا على العودة إلى الفندق قبل حلول الليل قاموا بتعمد تتويهها كما شعرت، ثم أصر محمود على استضافتها للأكل في بيته لكي لا تغضب أمه، وعاد بها إلى القرية ليأخذها محمود من ذراعها في الظلام ثم إلى غرفة تضيئها بصعوبة شمعتان قديمتان، لتجد طاولة مليئة بالطعام.

أخذ محمود يغسل يدي تابرا بحركات "تشبه المداعبة"، ثم شرح لها محتوى الأطباق الكثيرة المتراصة على الطاولة: لحم خروف مسلوق متبّل ذاب في فمها قبل مضغه، سمك نيلي وجبن ماعز وزيتون أسود وتين جاف وبيض وباذنجان مقلي وحمص ولبن، فأخذت تأكل وهو يطلب منها أن تعتبره خطيبها المصري، وأخذ يقارنها بقمر ونجوم الصحراء، ويتحدث عن عاج بشرتها التي لم ير مثل نعومتها وبياضها قط مبدياً دهشته من وجود خطيب لها في أمريكا يفرط فيها هكذا بسهولة، واستمر في "تزغيطها" بشكل يبدو أنه كان مريباً لأنه جعلها تتذكر فجأة أن أحدا لم يرها وهي تغادر الفندق. وحين شربت تابرا الشاي، حاولت النهوض، فأوقفها محمود بما يشبه العناق، وهو يقارنها بصوته الرخيم بحوريات الجنة ونجمات السينما، مؤكداً أنه لن يتعب من قضاء العمر في النظر إليها، ثم ارتاحت يده على عنقها فانتابته قشعريرة طويلة، ومع وضعه قطعة حلوى بالفستق الحلبي في فمها ومواصلة مديحه بانجليزيته العسيرة وعرضه عليها تدخين الحشيش، فجأة ترنح لهب الشمعة الثانية ثم انطفأ كلية.

"رأيت القمر من النافذة يضيئ ليل مصر، أخذت قطعة حلوى أخرى وعضضتها بشهوانية"، هكذا اختارت تابرا نهاية مفتوحة تشبه نهاية قصص المنتديات الجنسية لتلك القصة التي ساقتها في معرض التدليل على فعالية اللسان وما يسيل منه في فتح الشهية وتفتيح الشهوة، بدليل أنه غيّر موقف صديقتها الأمريكية المغامرة من المصري غريب الأطوار، برغم انجليزيته العسيرة أو بسبب انجليزيته المتوسلة، ولعل هذا "المحمود" الذي يستخسر لحم الخرفان في بنات بلده يكون مبسوطاً لأنه جاب لنا الكلام في بلاد الفرنجة، وإن كنت في الحقيقة أشك في وجود محمود أساساً، وأعتقد أن تابرا اختلقت الحكاية من طقطق لكلمة "بشهوانية"، وكتبتها لصديقتها إيزابيل وهي تجلس على كرسي متهالك في لوكاندة معفّنة في كلوت بيك، ليس فقط لأنني لا أصدق كيف يوجد في التسعينات أهالي قرية مصرية لم يسبق لهم أن رأوا سيدات بيض البشرة من قبل ولو حتى في التلفزيون، وليس لأنني أشكك لا سمح الله في وجود عنتيل مصري يمكن أن يرفع علم الشهوانية الوطنية إلى النجوم، بل لأنني أشك في وجود أهل قرية مصرية يتمتعون بهذا القدر من التعاون مع شاب هو بالتأكيد عاطل عن العمل منذ تخرج، فيساعدوه في دفع مصاريف هذه الوليمة الفاخرة التي لا يحظى بها عمدة القرية ذات نفسه، ثم يتركون محمود في حاله حتى ينتهي بسلام من تجربته الشهوانية المتمهلة، وربما كنت سأصدق تلك القصة لو روت تابرا أنها وجدت ذكور القرية قاطبة إلى جوار محمود أو فوقها هي ومحمود، قبل حتى أن تمسح يديها من أثر البتنجان المقلي.

خدمة الشراهة الهاتفية

حتى لو كنت من أولئك الذين يحتاجون إلى سطور مطبوعة للاستشهاد بها عند اللزوم وعند غير اللزوم، فلعلك لن تحتاج إلى إيزابيل الليندي وكتابها الممتع، للتأكيد على أن الكلام الجميل أمر لاغنى عنه حين يتعلق الأمر بالشهوة والشهية، فأعظم أكلة من أمهر الأمهات طهياً، يمكن أن يضيع سحرها الدافئ لو سبقتها جملة "مش هتطفح؟"، أما الرغبات الجارفة فما أسهل أن تزول بجمل شديدة التفاهة يحفظ أغلب المتزوجين ليس فقط كلماتها بل توقيتاتها أيضا.

أما إذا كنت لا تزال في حاجة لاستشهاد على أهمية الكلمة فيما يخص الشهوة والشهية، دعني أقتبس لك من كتاب إيزابيل قولها: "آه من آفة الكلمات، فهي ما إن تتسرب من اللسان حتي لا يعود باستطاعتنا لملمتها. وحذار أيضاً من الكلمة المكتوبة، فكم تسببت بمآسٍ لا تُحصى كان من الممكن تفاديها بقليل من الحكمة.... الكلمات ذاتها التي تبدو لنا فظة يكون لها في لحظات أخرى تأثير المداعبات الجريئة ساعة لقاء الحب الوحشية. كل شيئ يكمن في الهمس بها. في الطعام يمكن للأصوات أن تكون أفروديتية أيضًا، لدىّ أذن سيئة جدًا، فأنا غير قادرة على ترنيم عيد ميلاد سعيد، لكنني أستطيع استحضار طقطقة الزيت ـ تقصد الطشة العظيمة ـ عند قلي البصل، إيقاع السكين المختزل وهي تفرم الخضار، الجوز عند كسره وأغنية الهاون الصبورة وهو يهرس البذور...اصطدام طقم المائدة الفضي بالصحون على المائدة، ولهذه الأصوات بالنسبة إلىّ تأثير يبلغ تقريباً قوة صوت بلاثيدو دومينغو ـ مغني الأوبرا الشهير ـ بالنسبة لتلك السيدة الطيبة التي تذهب إلى الأوبرا".

وعلى ذكر السيدات الطيبات تتحدث إيزابيل بعدها عن تجربة صديقة لها، وزنها 110 كيلو جرام، وجدة لحفيدتين، لكنها تكسب عيشها من خلال العمل في إحدى خدمات الجنس الهاتفية المنتشرة في "بلاد برّه" بشكل رسمي والموجودة في "بلاد جوّه" بشكل عرفي، حيث تتقمص الجدة على الهاتف شخصية تلميذة في الثانية عشرة من عمرها، ولأن إيزابيل تعتقد أن اللسان أفروديتي في الطعام أيضاً كما هو أفروديتي في الفراش الحقيقي والمتخيّل، فقد اقترحت على صديقتها الجدة تنويع عملها بتقديم خدمة (الشراهة الهاتفية) حيث يمكن للشرهين والمبتلين بالريجيم والمتضورين جوعاً بشكل دائم أن يسمعوا وصفا تفصيليا لأكلة لحم فظيعة.

قبلة النفزاوي وحبوب الكبدة

من سحر الكلمات تنتقل إيزابيل الليندي للحديث عن سحر القبلة، بادئة حديثها بالإستشهاد مجدداً بالشيخ النفزاوي وكتابه (الروض العاطر) الذي ترجمه إلى الإنجليزية السير ريتشارد بيرتون في 1886 فقرأه من بني الفرنجة أكثر من الذين قرأوه من العرب والمسلمين، والذي تصف إيزابيل وصفه للقبلة بأنه "وصف ينطبق تماما على متعة تناول حساء شهواني، حساء بحريات مشبعة بنكهة وطعم البحر مثل شوربة الكابوريا التي يدمنها السواحليون في أنحاء العالم"، متوقفة عند قوله إن القبلة يجب أن تكون "رنانة وصوتها خفيفا وعميقا يرتفع بين اللسان وسقف الحلقوم المرطب"، لكنها تنبه قارئها إلى أن "قبلة على سطح الشفتين مرافقة بصوت كالذي نحدثه لننادي قطاً لا تمنح أية متعة، فمثل هذه القبلة جيدة للأطفال ولتقبيل اليد فقط".

سأنتهز فرصة حديث ايزابيل عن الكابوريا والبحريات، للتأكيد على أنها تشارك الكثير من "السواحلية" في انحيازهم للأسماك ضد اللحوم فيما يتعلق بالأفروديتية، فهي تلاحظ أن الشعوب التي تحتوى وجباتها على قليل جداً من اللحوم هي التي تملك أعلى نسبة انفجار سكاني وهي أيضاً التي "مارست فن الشهوة بعناية أكبر"، وهو ما يجعلها تتشكك بالفاعلية الشهوانية للحوم الثدييات، رغم اعترافها أن نصوصاً كثيرة وموروثات أكثر تختلف مع رؤيتها، فالكثيرون يشكرون في فاعلية لحوم حيوانات الصيد البرى، والايطاليون يقدمون لحم البقر نيئا في شرائح رقيقة جدًا تحت إسم (كارباتشيو) ويؤكدون فاعليته الجنسية، أما خِصى الحيوانات فيعزى إليها دائما تأثير فعال مثل كبد بعض الحيوانات التي تباع خلاصتها على شكل حبوب في الصيدليات لمن لا يحب مضغ الكبدة، وهي خدمة لم تدخل بعد إلى صيدلياتنا المناوبة، لكي لا تحرج نفسك مع مسئولي خدمة العملاء في صيدليات سيف أو العزبي الذين لن تجد لديهم قطعاً حبوب الكبدة، كما لن تجد أحداً من مسئولي خدمات التوصيل على كثرتها في بلادنا، يخدمك في توفير سلحفاة جاهزة لتشرب دمها، أو تأكلها مسلوقة كما يفعل إخوة لك في تايوان، أو من يوفر لك سيقان الضفادع التي لها "طعم فرّوج تافه" كما تقول إيزابيل التي تنصح الراغبين في أكلها من أجل فوائدها الجنسية بأن يقوموا بشراء الضفادع مسلوخة وجاهزة الاستخدام، لأن سلخ جلدها يمكن أن يصيب المرء بالغثيان، مع أنني أعرف كثيرين من أبناء جلدتنا لو تأكد لهم فاعلية الضفادع لسلخوا الذين خلفوها دون أن تصاب بالغثيان لهم شعرة.

حنكليس نيرودا

في معرض حديثها الممتع عن الآثار الشهوانية لمخلوقات البحر، اختارت إيزابيل أن تفتتح حديثها بقصة غريبة رواها المطران بورشارد ديورمز في كتابه (مرسوم التوبة) عن ممارسة غريبة تحمل المذنبين بلا شك مباشرة إلى مراجل الجحيم، حيث تدخل المرأة سمكة حية صغيرة طبعًا في مناطقها الحميمة، ثم ما إن تموت ـ السمكة طبعا لا المرأة ـ تقوم بطبخها لكي يأكلها رجل رغباتها، بالطبع لن أعلق وأسأل عن نوع السمكة الذي يقصده المطران، لأن إيزابيل نفسها لاتعلق على هذه القصة، بل تضيف بعدها قائلة إنه باستثناء الحوت والفقمة والدلافين وثدييات المحيطات الرائعة التي لا تستحق أن تنتهي إلى المقلاة، فإن جميع مخلوقات الماء شهوانية وبالطبع غنية بالفيتامينات والأملاح والبروتينات ولها طعم لذيذ ورائحة تستحضر أكثر روائح الجسد حميمية. متحدثة بعدها عن أغرب الأسماك الشهوانية: سمكة فوغو اليابانية ـ سمكة القراض أو النفيخة كما يسميها البعض ـ والتي تحتوى على سم قوى لامضاد له يشل القلوب فوراً، لكن طهاة متخصصين يقومون بتنظيف السمكة تاركين مثقال ذرة من سمها يكفى لاحداث إثارة جنسية لا تتسبب بالموت، ومع ذلك يموت في اليابان ما يقارب 500 شخص سنوياً بسبب سمكة الفوغو، ليقدموا دليلاً على قدرة الضعف الجنسي على إذلال أعناق الرجال وقصف أعمارهم.

لا يحتاج إثبات شهوانية السمك ومشتقاته إلى إطالة الاستشهاد بإيزابيل الليندي ووصفاتها، فالإيمان بذلك راسخ في عقول كل منا بما فينا الذين يأكلون السمك النيلي مجهول النسب. فقط أحب أن أنقل عن كتاب إيزابيل وصفة بديعة، يقدمها مواطنها الشاعر التشيلي العظيم بابلو نيرودا في إحدى قصائده التي خصصها للتغزل في سمكة الحنكليس أو "حنكليس البحار الباردة الهائل"، وسيعجبك وصف نيرودا لطريقة الطهي حتى لو لم تكن قد صادفت سمكة الحنكليس من قبل، والتي لا يصح أن تحكم عليها من اسمها، فمن يدري ربما وجدتها أمامك يوماً ما في "مينيو" قدّورة أو في فاترينة عرض سمكمك؟

يقول نيرودا في قصيدته السمكية التي تنقلها إيزابيل: "خذوا الحنكليس المسلوخ إلى المطبخ، فجلده الملطّخ.. يستسلم مثل قفاز..عندئذٍ ينكشف عنقود البحر، الحنكليس الطرى يتلألأ عارياً، جاهزاً لشهيتنا. والآن فلتأخذ ثوماً، وتداعب أولا هذا الحاج الرائع، تشم عبقه الغاضب، وعندئذ تترك الثوم المفروم يسقط مع البصلة والبندورة، حتى تدرك البصلة لون الذهب، تطبخ خلال ذلك القريدس البحري الفاخر على البخار، وحين يصل إلى أوجّه، حين تخثِّر الطعام في صلصة، من خلاصة المحيط، في الماء الصافي الذي أفلته نور البصلة، يدخل عندئذ الحنكليس ويغطس في المجد، ليتقطر في القدر، ينكمش ويتشرّب. وهنا لا يبقى غير أن تترك الزبدة تسقط في الطعام مثل وردة كثيفة، وتسلم الكنزَ للنار ببطء، حتى تسخن خلاصاتُ تشيلى في المرق، وتصل إلى المائدة مذاقات البحر والبر حديثة التزاوج، كي تعرف المساء في هذا الصحن".

ولعلك إذا راعيت تأثير الترجمة على روح الشعر، وأعجبتك غزلية نيرودا السمكية، تتذكر آسفاً أن الطعام في شعرنا العربي المعاصر لا يرد غالباً إلا على سبيل السخرية وفي نطاق الشعر الحلمنتيشي، لأن صورة الشاعر لدينا غالبا مرتبطة ذهنيا بالمجاعة المرتبطة بالفقر وخيانة المحبوب والاضطهاد السياسي وسوء التغذية، وعليك أن تتذكر في هذا الصدد الأجساد الهزيلة لشعراء عظام مثل أحمد رامي ومحمود حسن إسماعيل ومحمود درويش وأمل دنقل وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي، وربما كان نزار قباني وسيد حجاب هما الاستثناء المؤكد للقاعدة.

نختم غداً بإذن الله...
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.