معركة صهيونية على أعتاب أوبرا نيويورك (2 - 2)

معركة صهيونية على أعتاب أوبرا نيويورك (2 - 2)

09 مايو 2019
+ الخط -
ما إن بدأ إظلام المسرح ليدخل المايسترو ديفيد روبرتسون، بدأ الجمهور يصفق بشكل عادي، لأفاجأ بالعلج الجالس إلى جواري يقف مطلقاً صيحات استهجان وصارخاً: "عار.. عار.. ارهابيون.. مجرمون"، في نفس اللحظة التي انطلق فيها آخرون مثله في جنبات متفرقة من المسرح الضخم مطلقين صيحات الإستهجان وهتافات الاستنكار، ليتوتر الموقف، ويبدأ آخرون من الجمهور بعد قليل بالصياح فيهم: "اخرسوا"، ليتخذ المايسترو ـ الذي يُحسد على ثباته الانفعالي ـ قرارا حكيما بأن يشير إلى الأوركسترا التي كانت على وشك البدء في العزف لتصمت تماما، فيشعر الراغبون في الفرجة بالاستياء مما يحدث من زملائهم الساخطين، ويعلو تصفيقهم فيتضح أنهم أغلبية الحاضرين.

هكذا وجدت نفسي أصفق بحرارة لعرض لم أشاهده بعد، متعمدا أن يقترب كفاي الملتهبان بالتصفيق من وجه العلج الجالس إلى جواري، والذي كان قد وصل إلى أقصى درجات الهستيريا، ليقترب فجأة ضابط شرطة منه ويقول له بحسم "إذا لم تسكت حالا سأقوم بالقبض عليك فورا"، وكانت المفاجأة أنه خرس تماماً، لأستنتج من توالي صمت زملائه الذين كانوا يصيحون منذ قليل لإفساد العرض، أن موقف الضباط تكرر معهم، ليعم الصمت جنبات المسرح، فيبدأ المايسترو في عزف موسيقى افتتاحية الفصل الأول الذي بدأ بلوحتين افتتاحيتين، كانت الأولى مفاجئة لي، لأنها كانت تعبر من خلال وجود مجموعة كبيرة ممن يرتدون الأزياء الفلسطينية على خشبة المسرح، عن معاناة اللاجئين في "المنفى" بعد نكبة 1948، ليتضح بالنسبة لمن لم يشاهد الأوبرا من قبل ولم يقرأ عنها، أول تفسير لذلك الغضب الصهيوني الذي سبق العرض، لأن الأوبرا تستخدم تعبير "المنفى"، وتحكي عن اللاجئين الفلسطيينيين بوصفهم أناسا أبعدوا عن أرضهم عنوة، لتظهر فلسطين بوصفها أرضا كان عليها شعب تم إبعاده منها، وليس كما تقدمها الرؤية الصهيونية دائما بوصفها "أرضا بلا شعب".

لم يكن بوسع جاري أن يهتف أو يصرخ بعد تهديد البوليس له، لكنه ظل طيلة عرض اللوحة الإفتتاحية يفعل أشياء عجيبة جعلت تركيز كل من حوله في الفرجة مستحيلا، حيث بدأ في نفس الوقت يسعل ويتمخط ويتنحنح ويخرج موبايله ليضيئه، ثم يعيده إلى جيبه بعد زغرة من ضابط البوليس الواقف إلى جوارنا، ليعود إلى النحنحة والسعال والتمخط، فأصبح جلياً أنها ستكون ليلة سوداء، وأن تجربتي الأولى في حضور أوبرا سأقضيها في الإستماع إلى أنواع مختلفة من النحنحة والسعال والتمخط، لكن ما حسبته لم أجده، فقد انتهت اللوحة الافتتاحية الأولى، ليهدأ صاحبنا مع بدء اللوحة الإفتتاحية الثانية التي قدمت مجموعة من يهود أوروبا الذين وصفتهم الأوبرا بأنهم منفيون من جحيم النازية، ليحكوا عن معاناتهم في البحث عن وطن وهم يحملون أشجار زيتون يحلمون بزراعتها في وطنهم الجديد إسرائيل.


جاء المنطق الذي قدمته اللوحة الإفتتاحية الخاصة بالمهاجرين الإسرائيليين ليؤكد هاجساً كنت قد عبرت عنه قبل العرض لبعض أصدقائي ومن بينهم صديقة فلسطينية كانت شغوفة مثلنا برؤية العرض الذي أغضب المنظمات الصهيونية إلى هذا الحد، حيث قلت إنني أتوقع أن يكون سقف "الإنصاف" الذي تقدمه الأوبرا للفلسطينيين، ما سبق أن قدمه ستيفن سبيلبيرج في فيلمه (ميونيخ) الذي كان شديد التحامل على الفلسطينين، ومع ذلك فإن مجرد تقديمه لبعضهم بوصفهم بشرا لديهم ـ أو لدى بعضهم ـ خلفيات إنسانية وقصص مركبة، جلب له سخط الكثير من الصهاينة الذين اعتبروا فيلمه خيانة تأتي ممن كانوا يعتبرونه ابنا لهم، وليس مجرد صديق أو مناصر.

بعد انتهاء اللوحتين الافتتاحيتين ومع بدء المشهد الأول من الأوبرا ظهر على خشبة المسرح ديكور السفينة (أكيلي لوروا)، ومع بدء عزف الموسيقى، دوى في الأوبرا صوت شخص وقف ليهتف: "لن نغفر لقتلة كلينجوفر.. جريمة قتل كلينجوفر لن تمر"، ليصفق له بعض الحاضرين، في حين يهتف آخرون به أن يخرس، وبعد أن تدخل البوليس للقبض عليه وإخراجه من المكان وهو يواصل الهتاف، عاد الجمهور للتصفيق للمايسترو لتشجيعه على استئناف العرض، وكان ذلك الهتاف آخر مقاطعة تمت للأوبرا، ليس فقط لأن البوليس أحكم سيطرته على القاعة، بل لأن الرغبة في فهم الدوافع الدرامية التي ظهرت في اللوحة الإفتتاحية اختفت تماماً مع ظهور المسلحين الفلسطينين على خشبة المسرح، ليتم تقديمهم طول الوقت من حيث الشكل والمضمون والأداء بصورة تقارب الطريقة التي كانت هوليود في أغلب أفلامها تقدم بها الشخصيات العربية، حتى أنه عندما يدور في المشهد الثاني من الفصل الأول حوار بين أحد خاطفي السفينة وقبطانها، يقول فيه القبطان إنه لا بد أن يقوم العرب والإسرائيليون بإدارة حوار بينهم لفهم أسباب ما بينهم من صراع، ويقترح أن يبدأ ذلك على السفينة بين الخاطفين والمخطوفين، نجد أن الخاطف يتجاهل الإقتراح ويفضل أن يقوم بممارسة حركاته العصبية التي تخيف المخطوفين، الذين تقول واحدة منهن تحمل الجنسية الأسترالية: "نشكر الله أننا لسنا يهوداً"، ومع تتابع سير المشاهد يبدو جليا للصهاينة الغاضبين أن الأوبرا لم تكن تستحق كل ذلك الغضب، وأن العبارة التي تم استخدامها في الإعلان "شاهدها قبل أن تقرر" كانت محقة تماماً، وربما كان أفضل دليل على ذلك أن جيراني الثلاثة قرروا مع نهاية المشهد الثاني أن يغادروا المسرح غير مأسوف عليهم، قبل أن تتاح لي الفرصة لأسأل جاري العلج عن مشاعره، وقد اتضح له أنه ضيع وقته وأنفق ماله لإفساد أوبرا لم تكن شديدة المغالاة في مناصرتها للإرهاب كما قيل له.

عندما التقيت بأصدقائي في الإستراحة، كنا متفقين تقريبا على أن التحفز ضد عرض الأوبرا، والذي كان في هذه المرة أشد من المرات السابقة التي عرضت فيها داخل أمريكا، لم يكن له علاقة فقط بأن مضمونها جديد في محاولته إنصاف الفلسطينيين بعض الشيء، بل لأن الأمر وراءه أن أوبرا المتروبوليتان قد اعتبرتها المنظمات الصهيونية منطقة نفوذ لا يصح لأي رؤية محايدة أو مستقلة أن تدخلها، حتى لو كانت هذه الرؤية تساوي بين أصحاب الأرض التي تم احتلالها وبين المحتلين، وتجعل لكل منهما وجهة نظر، ومع ذلك فقد كنا متفقين بما فينا الصديقة الفلسطينية ـ وكان رأيها الأهم بيننا ـ أن تقديم الفلسطينيين بوصفهم أصحاب أرض تم نفيهم منها، يعتبر خطوة غير مسبوقة في عمل فني واسع الانتشار، سيجلب له الغباء الصهيوني في رفضه انتشارا أكبر، وأنه إذا لم يكن تقديم القضية الفلسطينية منصفا في هذه الأوبرا، فإنها على الأقل ربما تشجع فنانين آخرين على اقتحام هذه المساحة الملغومة بأعمال أخرى تطرح المزيد من الأسئلة الشائكة، ليتم رفع الحظر الفني عن هذه المنطقة شيئا فشيئا، كما نتمنى.

لكن تفاؤلنا لم يدم طويلا للأسف، وبدأ يتناقص شيئا فشيئا مع بدء عرض الفصل الثاني من الأوبرا والذي بدأ بتقديم لوحة عن قصة السيدة هاجر زوجة النبي ابراهيم كما قدمتها الرؤية اليهودية ثم كما قدمتها الرؤية الإسلامية، ليتبنى العمل منطق أن جذور الصراع العربي الإسرائيلي دينية وليست فقط سياسية، قبل أن يقرر عدم إمساك العصا من المنتصف كما فعل في الفصل الأول، بل يقرر أن يتبنى الرؤية الإسرائيلية كاملة في عدد كبير من المشاهد، كان أسوأها على الإطلاق مشهد يسترجع فيه أحد المسلحين الفلسطينين ماضيه مع أمه في المخيم الفلسطيني، فنرى الأم الفلسطينية وهي تحرضه على القتل حتى لو كان الثمن حياته، ولكي لا يدع لك المشهد فرصة لتأويله بأنه يتحدث عن حالة فردية لأم حالمة بالثأر، يمتلئ المسرح فجأة بمشهد يقدم جمعا من الأمهات الفلسطينيات كلهن تحرضن أولادهن على الموت بنفس الطريقة، ثم يمتلئ المشهد بمجموعة كبيرة من الفلسطينيين يحملون أعلاما خضراء ويرفعون إصبع السبابة وهم يتوعدون بالموت، ليقدم توم موريس مخرج المسرحية خلطا متعمدا بين إصبعي النصر الذين يرفعهما الفلسطينيون في فعالياتهم السياسية والعسكرية، وإصبع السبابة الذي يرفعه الإنتحاريون في فيديوهاتهم الشهيرة، وقد اعتبرت الخطأ متعمدا، لأنني لا أصدق أن يقع فيه بسهولة مخرج كبير مثل توم موريس يعمل معه فريق ضخم، كان من بينه باحثون قاموا بتجميع مادة وثائقية مكتوبة كانت طيلة عرض الأوبرا تظهر على شاشة خلفية، لكي تضع المشاهد في خلفية ما حدث منذ اختطاف السفينة.

لكننا حتى لو افترضنا أن خطأ إصبع السبابة الذي تكرر طيلة الفصل الثاني كان خطئا غير متعمد، فقد بدا من خلال الخطاب الذي قدمته الأوبرا في فصلها الثاني، أن هناك اختفاءا تاما لمحاولتها في الفصل الأول عرض جذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي تنتج عنه ردود أفعال عنيفة مثل خطف سفينة وتهديد ركابها المدنيين، بل إن الحرص على تقديم الأمهات الفلسطينيات في صورة المسكونات بالغضب والثأر والراغبات في إرسال أبنائهن إلى الموت، في حين تبدو الأمهات الإسرائيليات مشغولات بزراعة أشجار الزيتون وبالرغبة في الحياة، جاء ليشكل تمهيدا دراميا لفظاعة القتل الغادر لليهودي الأمريكي كلينجوفر ليظهر كأنه رد فعل طبيعي لأي فلسطيني، وليس أمرا استثنائيا يمكن أن يقوم به مسلح مندفع أو أحمق.

ومع أن ظروف قتل كلينجوفر لا تزال حتى اللحظة مثارا للكثير من الإختلافات والتفسيرات، إلا أن الأوبرا تقدمه كنتيجة لمواجهة كلامية دارت بين كلينجوفر وبين (مُلقي) زعيم المجموعة الإرهابية ـ وهو اختصار فني قدمته المسرحية لاسم زعيم المجموعة يوسف عبد اللطيف الملقي ـ وهي مواجهة جاءت باختيار كلينجوفر الذي قال في لوحة منفصلة إنه كان طيلة عمره يختار السلام والبعد عن المشاكل، لكنه قرر هذه المرة ألا يصمت وأن يواجه الإرهابيين بكلماته، وعندما يقول له ملقي إن ما دفعه هو ورفاقه لخطف السفينة، هو ما تعرضوا له من معاناة، يقوم كلينجوفر بتكذيبه ليقول له إنه لا يهتم حقا بأي معاناة تعرض لها آباءه وأجداده، بل إنه يحب فقط أن يقتل الناس الذين هم مثله، لتنتهي المواجهة الكلامية بإصدار أمر من زعيم المجموعة إلى أصغر المسلحين سنا بإطلاق النار على كلينجوفر من الخلف والإلقاء بجثته في البحر.

في ختام المسرحية نرى قبطان السفينة يبلغ زوجة كلينجوفر بقتله، لتنهار غاضبة منه لأنه تخاذل في إنقاذ زوجها، وغاضبة من العالم الذي تباطأ في التدخل لإنقاذ زوجها الذي كانت تتمنى أن تكون مقتولة مكانه، لكننا قبل ذلك المشهد نرى الخاطفين وهم يخرجون من السفينة بعد الإتفاق مع السلطات المصرية على خروجهم، ليحتفظ المخرج توم موريس هنا بالرؤية الإخراجية للمخرج الأصلي للعمل بيتر سيلارز، الذي كان بالمناسبة صاحب فكرة استلهام حادث اختطاف السفينة ليتحول إلى أوبرا، حيث اختار بيتر في رؤيته الإخراجية أن يتم خروج الخاطفين من بين جمهور المسرح حتى يغادروه، لإيصال معنى أنهم أفلتوا من العقاب، والمضحك أنني ظللت طيلة سيرهم البطيئ وسط الجماهير، أتوقع أن ينقض عليهم أحد الحاضرين الذين كانوا غاضبين لفش غله فيهم، وهو ما لم يحدث طبعا، لأن الأوبرا نفسها تكفلت بفش غل الغاضبين منهم، بعد أن قدمت المسلحين بوصفهم وحوشا ضارية، حتى أن الملمح الإنساني الوحيد الذي تم تقديمه لهم، هو قيام أحدهم بمنح السجائر لراقصة بريطانية بدا أنه طمعان في نَيل رضاها، أو نَيلها بمعنى أصح.

طيب، إذا كان هذا ما قدمته الأوبرا، فما الذي أغضب الصهاينة إذن إلى هذا الحد؟، ببساطة يكمن السر في التعصب الذي يعمي صاحبه عن الفهم، ويجعله يتصور أي تنازل بسيط عن رؤيته للأشياء هزيمة لا يمكن السماح بها، هذا هو التفسير المنطقي الوحيد في رأيي، ولو أن مجلة (النيويوركر) الأمريكية حاولت أن تقدم تفسيرا فنيا في عرضها النقدي للأوبرا، فبعد أن دافعت عن الأوبرا ضد الهجوم الصهيوني مستغربة أن لا يتحمل الغاضبون بعض العبارات التي وردت على لسان المسلحين مهاجمة الأمريكيين واليهود والإسرائيليين، في حين تحملوا أن يتم وصف النساء اليهوديات بأنهن "فيروسات" في فيلم ستيفن سبيلبيرج الشهير (قائمة شندلر)، اعتبر ناقدها أليكس روس أن الغضب من الأوبرا سببه وجود خلل في بنائها الدرامي، جعل الزوجين كلينجوفر وهما البطلان اليهوديان الوحيدان الذين تقدمهما الأوبرا لا يغنيان معبرين عن وجهة نظرهما إلا في الفصل الثاني، في نفس الوقت الذي يتم عرض وجود خلفية درامية جعلت البطل الفلسطيني محمود يحمل السلاح، بعد قتل أمه وأخيه في مخيم للاجئين الفلسطينيين، وهو ما تم اعتباره تبريرا للعنف والإرهاب.

وقد تسألني: لكن إذا كان هذا ما أغضب الصهاينة؟ طيب ما الذي يجعل مؤيدي القضية الفلسطينية من أبنائها أو من أصدقائها يغضبون أيضا من عمل يتم اتهامه بأنه يناصرهم ويدعو للإرهاب ويبرر العنف؟ والإجابة من وجهة نظري ليست أن الأوبرا قامت بالمساواة بين الجلاد والضحية، فهذا أمر ـ حتى مع رفضه وإدانته ـ يمكن أن نتخيله في ظل اختلال موازين القوى بين الجلاد والضحية، لكن ما أحزنني من هذه المسرحية أن صناعها بعد أن أخذوا مخاطرة الدخول في منطقة شائكة كهذه، لم يمتلكوا الشجاعة الفنية اللازمة ـ ولا أقول الكاملة ـ لتقديم دوافع الطرف الفلسطيني بصورة درامية عادلة، في حين تم تقديم الطرف الإسرائيلي أو من يتعاطف معه مثل كلينجوفر كضحية فقط، مما يستحيل معه تحقيق الهدف الذي أعلنه صناع الأوبرا بأنهم يسعون لفهم ما يحدث في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتقديمه بصورة بعيدة عن التحيز.


ومع أنني لا أظن أن هدف الفهم يستقيم أصلا مع اختيار حدث مثل اختطاف السفينة أكيلي لاوروا، يصعب وأنت تتابعه أن تشعر بتعاطف مع من يقومون بجريمة قتل عجوز مقعد وإلقاء جثته في البحر، حتى أن منظمة التحرير الفلسطينية التي بدأت تعاملها مع أصداء مقتل كلينجوفر المدوية عالميا باستخفاف، جعل فاروق قدومي رئيس دائرتها السياسية المزمن يقول وقتها في تصريح غريب إن أرملة كلينجوفر هي التي قتلت زوجها لكي تكسب فلوس التأمين، وهي حجة بلهاء لم تصمد طويلا، لأن زوجة كلينجوفر ماتت بعد رحيله بأربعة أشهر مريضة بسرطان القولون، وعندما لم تجد المنظمة مبررا جديدا، أعلنت تحملها المسئولية عن قتل كلينجوفر، ودفعت تعويضا ماليا كبيرا لابنتيه، اللتين قامتا بعد الحصول عليه بإنشاء مؤسسة لمناهضة الإرهاب بشكل عام و"الإرهاب الفلسطيني" بشكل خاص، وكانت هذه المؤسسة من أبرز الجهات التي قادت فعاليات رفض الأوبرا، ونجحت في أن تجبر دار أوبرا المتروبوليتان على الحصول على كلمة مكتوبة من ابنتي كلينجوفر تدين العرض بشدة ووضعها ضمن نسخة برنامج العرض التي توزع على الحاضرين.

قطعا، لم أكن أنتظر من مؤلف الأوبرا جون أدامز أن يقدم مع زملائه أوبرا عن مذبحة دير ياسين أو عن مذبحة الحرم الإبراهيمي أو عن جدار الفصل العنصري الكريه، كما أنني لست مهتما بأن أشكره لأنه لم يقدم أوبرا عن الهجمات الانتحارية التي تقتل المدنيين الإسرائيليين، أنا فقط أريد أن أعطي تقييما هادئاً لما فعله، فأقول إنه لم يكن راغبا في تقديم رؤية منصفة أو عادلة، بقدر ما كان راغبا ـ ولا تستطيع أن تلومه ـ في تقديم عمل يعكس الحالة الدرامية الموجودة في حادث اختطاف السفينة، تماما كما فعل من قبل حين قام تقديم دراما زيارة نيكسون للصين في أوبرا "نيكسون في الصين" التي حققت نجاحا كبيرا، أو أوبرا "الدكتور الذري"التي قدمت التحولات الدرامية في شخصية روبرت أوبنهايمر صاحب مشروع أول قنبلة ذرية، ولذلك أعتقد أن جون أدامز لم يكن يتوقع أبدا أن يجد نفسه متهما بالإرهاب، بعد أن حصل على جائزة بوليتزر عن أوبرا (تناسخ الأرواح) التي قام فيها بتجسيد مأساة ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر، لكنه إذا كان قد قام عند اتهامه لأول مرة بمعاداة السامية في التسعينات، بحذف مشهد من نفس الأوبرا، يقدم سخرية من عائلة كلينجوفر اليهودية النيويوركية الثرية، فهو لم يجد ما يفعله هذه المرة بعد اشتداد الهجوم عليه إلا أن يواصل دفاعه عن عمله بقوة، وأظنه يشعر الآن بالإنتصار لأن حجم التضامن مع عمله كان واسعا وقويا، ولولا ذلك لما كان عمله قد تم عرضه.

في نهاية المطاف، حققت المنظمات الصهيونية نصرا هزيلا بنجاحها في تقليل عدد من ستصل الأوبرا إليهم حول العالم، وحقق جون أدامز نصرا متوسطا بإعادة عرض عمله وتصديه لمطالبات وقفه، في حين كان النصر الأكبر من نصيب الرؤية الشائعة في الغرب، والتي تساوي بين الجاني والضحية وترفع شعارات السلام الرنانة والمبهمة، والتي يعتقد أنصارها أنهم سجلوا بهذا العمل ـ إلى جوار أعمال أخرى سبقته ـ نقطة كبيرة في صراعهم مع الرؤية الصهيونية واليمينية المتطرفة التي لا تقبل أصلا بوجود الفلسطينيين كطرف صاحب حق.
وكالعادة، لا زالت المأساة الفلسطينية تبحث عن فرصة لرواية قصتها الحقيقية، وهي فرصة تزداد صعوبة مع الوقت، ليس فقط لأن الحقيقة لن يفرضها في عالمنا إلا الطرف الأقوى، بل لأن المأساة الفلسطينية تحتاج إلى أن يعرفها أصلاً كثيرون من أبناء وطننا العربي الذين يعتقدون أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود، وهي رؤية نحمد الله أن أوبرا (موت كلينجوفر) لم تقم بتبنيها، ومن يدري ربما يجد الصهاينة منتجاً عربياً من طغمة القوم، يتبناها في عمل أوبرالي ضخم يصدر بالتزامن مع صيحات (صفقة القرن) التي ستصمّ الآذان قريباً والعياذ بالله.

ـ فصل من كتابي (من صندوق الدنيا) يصدر قريبا عن دار المشرق ـ

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.