تراويح قطع النفس

تراويح قطع النفس

07 مايو 2019
+ الخط -
قبل نحو 40 عاماً كان لصلاة التراويح في قرى صعيد مصر مذاق خاص، خاصة لنا نحن الأطفال الصغار، لأسباب كثيرة منها حرصنا على أداء الصلاة طوال شهر رمضان تقليداً للكبار، ومنها ما يتعلق بالطريقة السريعة التي كان يتم بها أداء التراويح عقب صلاة العشاء، وما تثيره الصلاة السريعة والطريقة الماراثونية والحركات الخاطفة التي كان يؤديها الإمام وخلفه المصلون من ضحك مكتوم لدينا نحن الصغار، كنا نقول عن الإمام "الله يسامحه.. لقد قطع نفسنا".

كان اللافت ساعتها هو قصر الفترة المخصصة للتراويح في معظم مساجد القرية التي لم تكن خاضعة لوزارة الأوقاف، وذلك على عكس ما كنا نسمع عن الصلوات الطويلة في العاصمة القاهرة أو المدن الكبرى، وعن إمام أحد مساجد المدينة المجاورة الذي يصلي التراويح بجزء كامل من القران الكريم وأحيانا بجزأين، وكان يختم القرآن عدة مرات طوال الشهر، ونسمع أيضاً عن الإمام الذي كان يصلي التراويح 24 ركعة، إضافة إلى 3 ركعات أخرى للشفع والوتر، وكان ينهي الصلاة قبل منتصف الليل مباشرة، كانت هذه الحكاوي التي نسمعها من الكبار تثير شغفنا نحن الصبية مقابل ما نراه في صلاة التراويح أمامنا وبشكل عملي.

كانت كل مساجد القرية تصلي التراويح 8 ركعات فقط، وكنا نسمع من بعض الكبار لفظ "تعالوا نخطف العشاء والتراويح" بسبب قصر مدة الصلاة حتى نكاد نظن ونحن نصليها أننا نحن المصلين دخلنا في سباق أو ماراثون جري سريع لا تكاد معه تلتقط أنفاسك من سرعة الركوع والسجود، فالصلاة كلها قد لا تستغرق أكثر من 10 دقائق شاملة العشاء والتراويح وسنة الشفع والوتر وقبلها ركعتا تحية المسجد.

عقب صلاة المغرب وتناول الإفطار مباشرة كنا نمر نحن الأطفال الصغار بحالة من السكون المؤقت استعدادا لرحلة الانطلاق اليومية، البداية تكون بأداء صلاة العشاء ثم التراويح، ثم الانطلاق بعدها إلى اللعب، أحيانا ما كنا نلهو لبضع دقائق عقب تناول الإفطار، ثم نتوجه إلى أقرب مسجد لنا لأداء الصلاة.

وما هي إلا دقائق تعقب آذان العشاء حتى يدخل جميع المصلين في ماراثون، صلاة العشاء لا تستغرق 3 دقائق وربما أقل، وبعدها مباشرة يبدأ الإمام صلاة التراويح التي لا تستغرق أيضا 5 دقائق يؤدي خلالها 11 ركعة منها 8 ركعات للتراويح وثلاث ركعات للشفع والوتر خلال الصلاة الماراثونية لا نستطع نحن الأطفال الصغار إخفاء ضحكاتنا بسبب الركوع والسجود السريع للإمام ومن خلفه المصلون، كانت قلوبنا تخفق، ليس بسبب الوقوف طويلا في الصلاة ومعها الخشوع، ولكن بسبب حركاتنا السريعة التي لم تكن تلاحق حركات الإمام الأسرع، كان الإمام يختار قصار السور في القراءة، أحيانا كان يصلي التراويح كاملة بسورتين، هما الكوثر والإخلاص، أقصر سورتين في القرآن وتتكونان من 7 آيات، 3 لـ"الكوثر" و4 لـ"الإخلاص"، ولا تستغرق قراءتهما عدة ثوان.

أحيانا كان الإمام يصلي ركعات التراويح الثماني بالسورتين فقط، فيوزع مثلا آيات الكوثر على ثلاث ركعات، في الأولى يقرأ الآية (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر)، وفي الثانية (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، وفي الثالثة (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر) ، وفي الرابعة يبدأ في قراءة الآية الأولى من سورة الإخلاص (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد) ثم في الخامسة (اللَّهُ الصَّمَد) فالسادسة (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) والسابعة (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد) يصل إلى الركعة الثامنة ويقرأ الآية (فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وهي الآية الـ137 من سورة البقرة.

كنت أستغرب هرولة الإمام وافتقاد الصلاة لأهم ركن فيها وهو السكينة والخشوع وتدبر الآيات، فالإمام كان يصلي التراويح وكأنه مشارك في مسابقة، ويريد أن يكسب السباق ويتغلب على منافسيه.

وبسبب الهرولة في الصلاة، أحيانا ما كنا نثير نحن الأطفال الضوضاء والصخب والصوت العالي، وكان عقابنا السريع هو الطرد من المسجد بحجة أننا لا نوفر الهدوء للمصلين.

لم نعرف نحن الأطفال سر هذه الهرولة في الصلاة.. كنت اسأل نفسي: ما السبب الذي دعا الإمام إلى هذه السرعة في عبادة من أبرز قواعدها الهدوء، هل لأن المصلين يريدون الانتهاء من الصلاة بسرعة حتى يخلدوا إلى النوم بعد يوم عمل مرهق وطويل في الحقول والوقوف تحت الشمس الحارقة.

الغريب أن معظم المصلين كانوا يفترشون الأرض أمام بيوتهم ويجلسون لساعات بعد صلاة التراويح، وبعضهم كان يذهب إلى المقهى الواقع في إحدى ساحات القرية أو يجلسون على الكوبري ليتسامروا. لم نكن ساعتها نعرف سباق ماراثون المسلسلات التلفزيونية، أو الخيام الرمضانية لأن التيار الكهربائي لم يكن قد وصل غلى القرية بعد.

صلاة "قطع النفس" لا تزال موجودة، فقبل أيام حكى لي صديق كيف أن الإمام صلى العشاء في بضع دقائق وكان مستعجلا، سأله المصلون عقب الصلاة "لما العجلة يا شيخنا"، فكان رده "حتى يشاهد مباراة فريق ليفربول من أوّلها ولا تفوته لقطات النجم محمد صلاح".

دلالات

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".