سنة أولى صيام

سنة أولى صيام

05 مايو 2019
+ الخط -
كان لشهر رمضان في قرى صعيد مصر مذاق خاص بالنسبة لنا نحن الأطفال الصغار الذين لم تتجاوز أعمارنا العاشرة، فالشهر كان يعني بالنسبة لنا نحن الصبية اللعب لساعات طويلة في ليل الشهر، ومنحنا إجازة من قبل الآباء من الأعمال الشاقة التي نمارسها في الحقول والزراعة في الأيام العادية من "حش" البرسيم للبهائم، والسير لساعات وراء البقرة عندما تدور في الساقية لري الأرض أو عندما تجر آلة حصاد القمح، بل وحراسة البقرة نفسها حتى لا تقع في الساقية، وحراسة قطعان الأغنام من الذئاب والثعالب وغيرها.

كما كان رمضان يعني لنا نحن الصغار الدخول في تحد مع الكبار لتقليدهم في العبادات والسلوك، ولذا كنا نتسابق على صوم شهر رمضان كاملاً مثل الآباء والأمهات والأجداد رغم سخونة الطقس والرطوبة العالية، فدرجة الحرارة كانت تتجاوز الخامسة والأربعين وربما أكثر في نهار شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب.

وكان الشهر الكريم فرصة لنا لإثبات رجولتنا أمام الكبار، فالذي يفطر منا نحن الأطفال الصغار في شهر رمضان لا يحق له الانتساب لعالم كبار السن أصحاب الشوارب الواقفة والصوت الخشن والجلباب الصوف، ولا يحق له الجلوس حتى مع الشباب والدخول معهم في أي نقاش من أي نوع.

ساعتها كان كل الأطفال يتوهمون أنهم رجال كبار "بلغوا" قبل الموعد المحدد، حتى ولو لم تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة، كانوا يتفاخرون بأن لهم شاربا حتى ولو لم تنبت شعرة واحدة في شنبهم أو ذقنهم، كان الواحد منا يلف شاربه غير الموجود أصلا تقليدا للكبار، وأحيانا يرتشف الشاي قاتم السواد بصوت عال كما يفعل الكبار، ويشير إلى الكوب الزجاجي الذي يمسكه بيده اليمنى ويرفعه لأعلى قائلا: "هذا شاي الشيخ الشريب الأصلي" مشروب رمضان المفضل.


ولأن الصوم في شهر رمضان كان لساعات طويلة، والجو لا يرحمنا نحن الصغار بسبب قساوته وسخونته وعرقه المتواصل، كنا نتحايل عليه حتى لا نشعر بتعب الصيام وساعاته وفراغ أجسادنا النحيفة من المياه، لم يكن وقتها لدينا وسائل تسلية حديثة مثل التلفزيون، وكان الراديو الترانسيستور المشهور يوجد على نطاق ضيق في بيوت القرية.

وطوال الشهر كنا نقضي ساعات طويلة نسبح في الترعة أو في بحر يوسف الذي يبدأ من مدينة ديروط بمحافظة أسيوط حتى محافظة الفيوم، كنا نعوم بلا تعب ولا ملل رغم أن البلهارسيا كانت تنهش في أجسادنا بسبب السير حفاة في التراب عقب خروجنا من الترعة أو البحر وفي الحر الشديد.

كنا نذهب إلى الحقول وقت الظهيرة هرباً من حر البيوت الخانق لننام وسط الزراعات الخضراء وتحت الأشجار كثيفة الأوراق متعددة الفروع، فأشجار الجميز والتوت والصفصاف أكثر رحمة من المنازل التي نقيم بها والتي لا يتوافر بها أي وسيلة لخفض درجة الحرارة الملتهبة، والنوم داخل زراعات قصب السكر والذرة الشامية يحول دون الشمس الحارقة، خاصة إذا كانت أراضي هذه الزراعات مروية حديثا.

التيار الكهربائي لم يكن قد عرف طريقه بعد نحو القرية، كانت الكهرباء تتوافر فقط في المراكز والمدن الكبيرة والمحافظات، أما القرى والنجوع والكفور فتعتمد في الإنارة على اللمبة الجاز التي يتم تغذيتها بالكيروسين وبها فتلة بيضاء كان يتم صنعها من القطن، وأحيانا كانت بعض البيوت تستخدم "الكشاف" الذي كان يوجد أيضا في المقاهي ويخرج منه نور ساطعا.

أحيانا، كانت الأمهات يتركن أطفالهن نياماً حتى قبيل صلاة المغرب رحمة بهم، خاصة إذا كان الطفل في أول سنة صيام ولم يسبق له الصيام من قبل، وكان بعضنا يستيقظ قبل الإفطار مباشرة حتى يلحق صلاة العصر، وعقب تناول الإفطار مباشرة ينطلق الجميع في مواكب وموجات نحو الساحة التي نطلق عليها "الوسعاية"، نلعب حتى صلاة العشاء، نصلي العشاء والتراويح التي لا تستغرق في العادة 10 دقائق وربما أقل.

وبعدها ننطلق إلى خارج القرية حيث الجلوس على الكوبري الذي كان يعد أكبر تجمع لشباب القرية، وأحيانا ننطلق إلى ملعب المدرسة لنمارس لعبة كرة القدم حتى موعد السحور، بعدها نرجع لمنازلنا لنستعد لصلاة الفجر، وبعد الصلاة نقوم بجولة أخرى من اللعب حتى شروق الشمس، وبعدها ننام حتى موعد الإفطار.

كان بعضنا الآخر من الأطفال يفضل لعبة الكرة الشراب المصنوعة من أقمشة قديمة يتم حشرها بقوة داخل جورب قديم أيضا، أو لعب الكرة الليف المصنوعة من ليف النخيل، أو يلعب لعبة "الزقلة" أو التحطيب و"الشومة" وذلك في ساحات شوارع القرية بدلا من الذهاب إلى ملعب المدرسة الواقع خارج القرية، خاصة أن الشباب الكبار كانوا "يغلسون" علينا ويطاردوننا اعتقادا منهم أننا أتينا نحن الأطفال لمزاحمتهم على الملعب.

كان بعض الأطفال يلف على موالد القرى المجاورة، خاصة إذا كان المنشد "الشيخ ياسين التهامي" القادم من إحدى قرى محافظة أسيوط المجاورة، حيث كان ينشد الأغاني القديمة وسط مريديه حتى الصباح.

بعضنا نحن الأطفال كان يحول رمضان إلى شهر إنتاج لمساعدة أسرته على مواجهة ظروف الحياة ومتطلبات الشهر الكريم، حيث كان بعضنا يذهب مبكرا إلى ترعة القرية أو إلى بحر يوسف الواقع غرب القرية لاصطياد أسماك البلطي أو "القرموط" الشهير حتى الصباح، وأحيانا يبدأ هذه المهمة بعد صلاة العصر حيث تكون درجات الحرارة قد هدأت، وفي نهاية اليوم يذهب بمحصول وفير من الأسماك يقدمه لأمه، ويصر على أن تكون وجبة الإفطار الرئيسية هي عبارة عن طاجن سمك.

وأحيانا ما كان بعضنا نحن الأطفال ينشغل ساعات في جمع البلح من شجر النخيل باعتباره الغذاء المفضل على مائدة إفطار رمضان، وتزداد سعادة الواحد منا عندما يجمع أكبر كمّ من البلح حتى يوزعه على الجيران وكبار السن.
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".