دعوات أمي المفضلة

دعوات أمي المفضلة

30 مايو 2019
+ الخط -
"روح.. ربنا يحبب فيك الرب والعبد حتى الحصى في الأرض"، "ربنا يحبب فيك خلقه ويجعل لك في كل طريق رفيق"، "ربنا يرزقك رزق بارد ما ليه مطارد"، و"روح ربي وقلبي راضيين عليك إلى يوم الدين"، "يعطيك العمر الطويل والرزق الكتير"، "تشيلك الركايب لرزقك اللي غايب".

هذه أبرز دعوات أمي رحمها الله، كانت ترددها لي دوماً صباح - مساء، كانت تلاحقني بها كلما غادرت المنزل ذاهباً إلى عملي أو حتى خارجاً إلى مشوار قصير، وتكثف من دعواتها عندما أسافر خارج مصر. أعترف أنني لم أكن أفهم معنى الكلمات ومغزاها في بعض الأحيان، وكيف أنها ظلت ترددها لأكثر من 30 عاماً، ومع كل دعاء كأنها تنطق به لأول مرة في حياتها، تدعو بنفس الحماسة والرجاء من الله بالاستجابة لها، لكن بشكل عام كنت أشعر براحة نفسية كبيرة عندما كانت تمد يدها لأعلى للدعاء، أقف لبرهة لأسمع صوتها الطيب الحنون ودعواتها الصادقة الخارجة من القلب، أشعر ساعتها بأن الملائكة يرددون خلفها "آمين"، وأن هذه الدعوات الطيبة تحيط بي أينما ذهبت، دعوات كانت سبباً في حصد الرزق، لا فقط رزق المال، بل رزق الأسرة الطيبة والصحبة الصادقة ورفقاء السفر وتفادي رفقاء السوء، وكثير من الكوارث والأزمات وأحياناً المؤامرات التي تحاك ضدك.

دعوة أمي الأولى والأشهر ظلت تلاحقني أينما ذهبت أو تعثرت أو فقدت الأمل في الوصول لشيء ما، لا تزال ترنّ في أذني رغم أنها ودعت دنيانا قبل أكثر من 13 سنة، وأنا أغادر المنزل ترنّ الكلمات في أذني اليمنى: "روح.. ربنا يحبب فيك الرب والعبد حتى الحصى في الأرض".


في منطقة حلايب بجنوب شرق مصر وقبل 26 سنة أردت أن أذهب إلى ساحل البحر الأحمر، المياه قريبة أراها بعيني حسب رؤيتي وأريد أن أسبح في البحر. سرت لأكثر من 3 ساعات نحو الشاطئ، وكلما ظننت أنني أقترب اكتشفت أن ما رأيته سراباً وليس مياه البحر الحقيقة. واصلت السير، أخيراً وبعد ساعات طويلة وصلت إلى الشاطئ، فجأة ارتبكت لأن الليل قد حلّ ومعه الظلام الدامس، والمنطقة خالية من الكهرباء. ما العمل؟ كيف سأعود من حيث أتيت وأنا لا أرى أمتاراً أمامي، سرت ما يقرب من ساعة تائهاً في الصحراء وفجأة وجدت سيارة تقترب مني، سألني قائدها إلى أين ذاهب فقلت لي إنني تائه وسردت له ما حدث، أوصلني للمكان الذي تحركت منه، وفي طريق العودة وصفوا ما قمت به بأنه مغامرة وجنون وخاصة في هذا المكان الخالي من البشر والمعروف بانتشار ظاهرة السراب، هنا تذكرت دعاء أمي: "يجعل لك في كل طريق رفيق".

يوم 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وفي ليلة مذبحة ماسبيرو الشهيرة وبينما كان بعض المتظاهرين يصبّون الحجارة على رأسي صباً وأنا خارج من مقر قناة الحرة الأميركية الواقعة على كورنيش القاهرة، ظناً منهم أنني ضابط شرطة حيث كانت سيارتي سوداء اللون وزجاجها فاميه، فإذا بشابّين يعملان في مقر الأمم المتحدة بالقاهرة لم أعرفهما من قبل، يقتربان من المتظاهرين ويؤكدان لهم أنني شخص عادي ومشكلتي أنني جئت للمشاركة في التظاهرات وأنا أرتدي كرافت وبدلة، هنا توقف المتظاهرون عن رجمي بالحجارة، كما قام هذان الشابان باصطحابي وسيارتي المهشمة إلى المستشفى، بعد أن فتحت الحجارة رأسي وآذت ذراعي وظهري، هنا تذكرت دعوة الأم.

في مدينة كيب تاون بجنوب أفريقيا، وبينما كنت تائهاً أتخبط في الشوارع، لا أعرف مكان الفندق الذي أقيم به أو موقع المؤتمر الذي جئت خصيصاً للكتابة عنه، وجدت أمامي شخصاً من جنوب أفريقيا يقترب مني ويسألني عن سر قلقي، ويرشدني بعدها نحو وجهتي الصحيحة، بل عندما علم أنني من بلد القارئ الطبيب أحمد نعينع عمل لي مرشداً طوال الأيام الأربعة، التي قضيتها في المدينة الساحلية الجميلة التي تشبه مدينة الإسكندرية، يدلّني عن الشوارع التي يجب أن أتجنب الذهاب إليها لخطورتها، ينصحني بعدم حيازة نقود كثيرة أو محفظة في جيبي، ويحذرني من الصعود لهذه التبة ليلاً، ويرشدني لأفضل المطاعم.

وعندما تهت في مطار هيثرو العملاق بالعاصمة البريطانية لندن، وذلك في أول زيارة لي لبريطانيا وجدت فجأة سيدة مصرية كانت تشغل منصب نائب رئيس أحد البنوك المصرية الكبرى، تتجه نحوي وتسألني: "مصطفى كيفك.. عايز حاجة"، هنا تنفست الصعداء وعاد لي نفسي الطبيعي وهدأت ضربات قلبي، شكرتها، لكن تتبعت خطواتها من بعيد سائراً خلفها حتى أخرج من هذا المطار السيرك، الذي تتجمع فيه طائرات العالم وشعوب الكرة الأرضية.

في كل مرة كنت أتعرض فيها لموقف حرج، كنت أتذكر على الفور دعاء أمي: "ربنا يحبب فيك خلقه، ويجعل لك في كل طريق رفيق".

ودعاء أمي "ربنا يرزقك رزق بارد ما ليه مطارد"، أدركت مغزاه بعد مماتها، ففي حياتها كان الرزق الوفير والحمد لله ببركة دعائها لي ولأولادي، وبعد مماتها استمر الرزق لأنها دعت لي بأنه لا أحد يزاحمني فيه، ولا أحد يحسدني ويطاردني وينظر فيه حاسداً وحاقداً ومتمنياً زواله أو متعجباً من ذهاب هذا الرزق لي وليس له.

ومن دعوات الأم كذلك: "روح ربي وقلبي راضيين عليك إلى يوم الدين"، وهو دعاء يحمل نوعاً من الطمأنينة الشديدة، وأجمل ما فيه أنه يربط بين رضاء الأم ورضاء الرب، ودليل قوي على أن قلبها لن يغضب عليك حتى ولو بعد حين أو حتى بعد مماتها، فهي راضية عنك إلى يوم الدين.

كانت أمي تنصح السيدات من حولها بالدعاء لأبنائهن وليس الدعاء عليهن، بل كانت تنفر من دعوة الأمهات الشعبية المعروفة "أدعي على أبني وأكره اللي يقول آمين"، وتقول: "ربما يكون باب السماء مفتوحاً"، ويستجيب الله دعاء الأم في لحظة غضب على ابنها، أو حتى لو كانت دعوتها من وراء قلبها، وهنا تتحول حياة الابن إلى جحيم لا يطاق بسبب دعوة ربما تكون غير مقصودة من الأم، وأن هدفها الوحيد هو التهديد أو التعبير عن حالة غضب مؤقتة.

كانت أمي رحمها الله تتفادى الدعوات السلبية، وتفضل الدعوات المتفائلة الإيجابية التي تأتي برضا الله والرزق الوفير، والبيت الواسع والأولاد الصالحين.

رحم الله أمهاتنا جميعاً.

دلالات

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".