التفاخر بالإقامة الأوروبية

التفاخر بالإقامة الأوروبية

03 مايو 2019
+ الخط -
بعد أن ودّعنا الولايات المتحدة الأميركية، التي أقمنا فيها فترة متواصلة لا بأس بها، في آخر زيارة لي للحاق بركب الدول الأوربية، مع بداية اندلاع الثورة السورية وما خلفته من نتائج صادمة للقاصي والداني، ما دفع بأعداد كثيرة من السوريين إلى الهجرة القسرية واللجوء إلى الدول الأكثر أمناً، لا سيما أنها أكثر قرباً من البلد الأم سورية، قياساً بفارق الزمن الكبير مع القارة الأميركية التي تفصل عنها نحو سبع ساعات بين أوروبا وأميركا، بالنسبة للولايات القريبة من المحيط الأطلسي وتمتد حتى كندا، ومنها: نيويورك، بنسلفانيا، نيوجرسي، فيرجينيا، كارولينا الشمالية والجنوبية، جورجيا، وفلوريدا... فضلاً عن الولايات التي تقع على ساحل المحيط الهادي للولايات الأميركية، وقد يصل فارق الزمن إلى نحو تسع ساعات وأكثر، وتتكون من خمس ولايات واشنطن، أوريغون، كاليفورنيا، ألاسكا، وهاواي.. ناهيك عن ولايات الوسط الأميركي كآيوا، أوهايو، إلينوي، إنديانا، لويزيانا، كانساس، كنتاكي، كولورادو، ميزوري، ميشيغان، مينيسوتا، ونبراسكا.

وشاءت الأقدار السفر خارج الولايات الأميركية والتوجه إلى النمسا، التي تمثل إحدى الدول الأوروبية التي تعد أكثر أماناً وقريبة إلى القلب، بخلاف الدول الأوربية الأخرى، وتمتعها بطبيعة خلابة وحياة هادئة. يكفي زيارة "فيينا"، المدينة الساحرة!

إنَّ الكلمات التي تتردّد على ألسنة زوّار المدينة وعشّاقها، يرافقها بريقٌ ساطعٌ في العيون، وشوقٌ هائجٌ في القلوب والأرواح… كيف لا، والمدينة أسطوريّة الجمال بكلّ ما فيها؛ بماضيها العريق وحاضرها الطموح، وبسلاستها في الموافقة والجمع بين تراثٍ عمرُهُ قرون طويلة وحاضرٍ شغوفٍ متلهّفٍ إلى المستقبل.

إنَّ زيارة مدينة "فيينا" العاصمة النمساوية كالارتحال عبر الزمن، والعيشُ فيها كالحياة في نعيمٍ دنيوي خالص. إنّ في "فيينا" من متعة العيش وفنون الحياة ما يعجز الإنسان عن البقاء حياديّاً جامداً في حضرته، كلّ شيء من البنايات الأنيقة، إلى الحفلات الراقصة التقليدية، إلى ذكرى موزارت وبيتهوفن التي لا تزال تعبق بها المدينة يضفي على الحياة في "فيينا" بريقاً خاصّاً، وإحساساً يشبه الحلم. وفي هذا نتساءل:
هل نحن مقتنعون بهذه النتيجة؟! وهل أوروبا تختلف عن أميركا، وبماذا تختلف؟ وما هو وجه الخلاف بينهما؟ وهل نحن راضون بكل هذه المعطيات؟ وبعد كل الذي حدث، وإن حصلنا على جنسية أية دولة أوروبية، أو حتى جنسية الولايات المتحدة الأميركية، العملاق الاقتصادي الضخم، هل ينسينا هذا حبنا وولاءنا لبلدنا؟!

وهل نحن مقتنعون بالغربة أصلاً، كغربة والبعد عن الأهل والأحبّة والديار، وجلسات الحارة الساخنة، بأحاديثها الجانبية، وسلام المارّة، وتحية مفعمة بالحب لذلك الشيخ، ولتلك العمّة ولهاتيك الخالة، وذاك الطفل.
لا أظن أنَّ الحصول على جنسية أي بلد، يمكنها أن تلفظنا عن بلدنا، وتبعدنا عنه. ذاك البلد العظيم الذي ترك في قلبنا غصّة، وغصّة لها عنوانها العريض.


وعلى الرغم مما نحن فيه اليوم، من بهرجة الإقامة، والتفاخر بها من قبل الغالبية من المغتربين الذين سبق أن حصلوا عليها، وممن ينتظرون، والأحاديث الجانبية التي لا ينفكُّ مجلس محلي في الرَّقة، أو في غيرها من المدن السورية، والحديث الرئيس يصف واقع المغتربين وأحوالهم، وقفزاتهم بعد أن عانوا ما عانوا من قهر وحرمان وضياع وقت طويل لأجل الوصول إلى ما يسمى بدول النعيم، مثال: ألمانيا، فرنسا، هولندا، النمسا، السويد، بريطانيا، الدنمارك، إيطاليا، إسبانيا، فنلندا، وغيرها كثير من الدول الأوربية، ناهيك بالأموال التي صرفت وخصصت من أجل السفر إلى هذه الدول، وتعرّض المغامر للموت المحقّق، وفوق ذلك المعاناة التي تمخّضت عنها تلك المغامرة العاصفة، علاوة على تأمين المبالغ الضخمة التي تتطلب لهذه المغامرة الخاسرة!

هي مغامرة خاسرة، بكل الأحوال، لأنه ومن خلال لقائي أعداد من هؤلاء المغامرين، فإنَّ ما صرف لقاء الوصول إلى هذه الدول من مبالغ مالية فاق الـ 6 آلاف يورو للشخص الواحد، ومنهم من دفع لقاء وصوله إلى تلك البلاد الذهبية الــ 12 ألف يورو ونيّف، بعيداً عن المعاناة التي تجاوزت الأشهر الستة، قضوها بين الغابات والعواصف والرياح والأمطار، ومخاطر البحر، والموت الزؤام.


إنه الواقع الذي ما زال يعاني منه كل من وطأت قدمه الأراضي الأوروبية على مختلف تركيباتها البنيوية، وإن ظلّت البنية الأساسية هي الشاغل لهؤلاء المغتربين، عرباً كانوا أم عجماً، وكل من فكر في اللجوء إليها هرباً من معاناة الحكام وظلمهم وقهرهم الذي أفنى العباد، وجعلوا منهم لقمة سائغة بفم تلك الدول التي احتضنتهم وآوت نزوحهم، وقدمت لهم ما بوسعها من دعم مادي ومعنوي، فضلاً عن الخدمات الجليلة التي هيئت أمامهم وأمام أبنائهم الكثير من المفاهيم الخاطئة التي كانت تعشعش في عقولهم، وفي أفئدتهم، وتغيّر ذلك المفهوم الذي، وبمعاملتهم المعاملة الحسنة، أرغم من لجأ إليهم، إلى الامتثال لرغباتهم، والاندماج قدر الإمكان في طقوسهم التي شكلت قاعدة بيانات لأغلبهم.

وها هي الآلاف، بل مئات الآلاف من اللاجئين ما زالوا يعيشون في تلك البلاد، وشق أبناءهم طريق حياتهم بنجاح لافت بعد أن تجاوزوا مشكلة اللغة في مختلف الدول التي قدموا إليها، واستأنسوا واستمروا في العيش فيها، وبكل رحابة صدر، وما قدم حقيقة عجزت بلدانهم الأم عن توفيرها ما جعلهم متشبثين فيها، وفخورين بها وبعطاءاتها التي لا تنضب، وهذا ما كان.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.