شيلوا الوالي وحُطّوا خروف!

شيلوا الوالي وحُطّوا خروف!

27 مايو 2019
+ الخط -
لو أن أحداً قال لي إنه قرأ هذه الواقعة المدهشة في أحد كتب التاريخ لما صدقته، لكنني قرأتها بنفسي في كتاب (إغاثة الأمة بكشف الغمة) للمؤرخ المصري العظيم المقريزي، ولذلك وحده صدقتها، مع أنني في البداية ظننتني أتوهم قراءتها، بفعل إرهاق الصيام الذي كان يكتنفني، لكنني بعد أن دققت النظر وأمعنت في القراءة، بدت لي تفاصيل الواقعة مقنعة، ولذلك صدقتها برغم كونها أعجوبة خارقة، ولكن هل تليق الأعاجيب إلا بمصر أرض المضحكات المبكيات.

يروي المقريزي: ".. وفي تلك السنة اندلعت بأرض مصر هوجة عظيمة، اهتزت لها البلاد وانقلب حال العباد، وخرج الخلق إلى حواري المحروسة وشوارعها زرافات ووحدانا، يلعنون سنسفيل الوالي وذريته وحاشيته الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد وحق عليهم من الله سوط العذاب، وأخذ الناس يتصايحون بلسانهم العامي، وهم يزحفون نحو قصر الوالي "شيلوا الوالي وحطوا خروف.. يمكن يحكم بالمعروف"، ودارت بين الناس وجند الوالي مقتلة عظيمة، سقط فيها مئات القتلى وآلاف الجرحى، وكان كلما سقط من الناس قتيل أو جريح كبروا وهللوا، وجأروا إلى الله بالشكوى والدعاء، وزادت حماستهم أكثر، حتى أنهم لم يعودوا يطالبون برحيل الوالي عن سدة السلطنة فقط، بل أخذوا يطالبون بالقصاص منه هو وقادته، ووضعهم على الخازوق أمام باب زويلة إنفاذا لشرع الله، وحاصر الخلق قصر الوالي، قبل أن يتبين لهم أنه هرب من سرداب أسفل القصر، إلى ضيعة بعيدة كان يحب أن يقيم فيها، ولكي لا يقتحم الناس قصر الوالي خرج إليهم قائد جيشه وقال لهم أنه أجبر الوالي على ترك القصر حقنا للدماء، وأنه يضع نفسه هو وقادته وجنوده تحت تصرف الناس، ويترك لهم حق إختيار حاكمهم كما يروق لهم.


اجتمع أعيان الناس وعوامهم في ساحة قصر الوالي، وأخذوا يتشاورون فيما بينهم عن اسم الوالي الذي يمكن أن يختاروه لكي يحكمهم، وكان الأعيان كلما طرحوا على الناس اسماً من فضلاء المماليك صاح العامة رفضا له، وأخذوا يذكرون بعضهم بما ذاقوه من أشباهه قبل ذلك، وكان العامة كلما طرحوا على الأعيان اسماً من بينهم، يُشتهر عنه النزاهة ونضافة اليد، رفضه الأعيان قائلين إنه فور جلوسه على كرسي الولاية سيتجبر ويتفرعن، ويصبح ألعن من المماليك الذين تولوا الحكم، وبعد أن ضج الناس بالشكوى من فرط الجدال والمراء، وشعروا بالقلق من فراغ قصر الولاية من والٍ يحكم البلاد، ويشكم من اعوجّ من العباد، قرر أهل المحروسة أن يُحدثوا حدثاً لم يسبقهم إليه أحد من قبل، إذ تذكر أحد الذين قادوا الناس إلى القصر ما كانوا يهتفون به في الشوارع والحواري، وهم يزحفون على القصر، وعزموا على أن يلقنوا سائر المماليك في أرجاء المعمورة، ممن يتجبرون على العباد درسا لن ينسوه، إذ ذهبوا إلى حظيرة السلطان، واختاروا من داخلها أكثر الخرفان هزالا وضآلة، وأحضروه إلى داخل القصر، وقاموا بغسله وتجفيفه، ثم ألبسوه رداءا مزركشا ووضعوا على رأسه تاج الولاية، وكان كلما إستقر على رأسه أسقطه، فربطوه إلى رأسه بحبل، ووضعوه على كرسي الولاية، وتنادوا له بالبيعة.

وزحف الناس من كل أرجاء المحروسة على قصر الوالي وهم يصيحون "شلنا الوالي وجِبنا خروف.. يمكن يحكم بالمعروف"، وتوافدت وفود من الناس على قاعة الحكم، وأخذ كل من دخل يقبل رأس الخروف ويبايعه ويدعو له، ثم وقف القاضي الفاضل أمام الناس وقال لهم: "يا أهالي المحروسة لا تحسبوا إنكم جئتم شيئا إدّا، فوالله لقد حكمكم من يمتلك هذا الخروف عقلا أرجح منه، واستبد بأمركم من لا يخاف من الله كما يخاف هذا الخروف.. فتوكلوا على الله وتواصوا فيما بينكم بالحق وتواصوا بالصبر.. وعليكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتراحم والمودة.. لا يبيتن أحدكم شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم.. لا تصبروا على ضيم يحيق بكم.. ولا تنصروا ظالماً على مظلوم.. وتالله لو فعلتم كل ذلك لدعوتم لمولانا الخروف بطول العمر ودوام البقاء".

ولم يلبث الناس إلا أن اختاروا من بينهم ثلاثة وزراء من صلحاء الناس وفضلائهم، على ألا ينفرد أحدهم بالوساطة بين عموم الناس وواليهم، بل يقوم الثلاثة مجتمعون بكتابة كل ما تحتاج إليه البلاد من قرارات وأوامر وفرمانات على أوراق خضراء توضع في زنبيل ثم تعرض على الوالي أمام نخبة مختارة من الشعب فيمد الوالي رأسه ويلتقط ورقة كما اتفق، فينتزعها الوزراء من فمه، ويقرأونها على الناس فيهللون ويكبرون، وهم يشكرون الله الذي أجرى الحق على فم الوالي الخروف، الذي ما مد فمه نحو قرار أو فرمان، إلا وحمل الخير للناس وأمر بالعدل والإنصاف، بل تعجب الناس أن الوالي الخروف، لم يقدم قرارا هينا على قرار عظيم، ولم يختر أبدا قراراً يحمل ظلماً لبرئ أو يجور على حق ضعيف، أو يضع مظلوما في غيابة السجن.

زعم الناس أن معجزة أنزلها الله على البلاد رأفة بحالها، وشفقة بشعبها الذي تحمّل من الجور والعسف، ما لم تحمله شعوب الخليقة قاطبة، وما علم الناس أن الأمر كله لم يكن حكمة تنزلت على الخروف، وإنما كان في ما تحلّى به وزراءه من عدل وعقل وحكمة، مما جعلهم لا يضعون في الزنبيل قراراً واحداً يحمل شبهة ظلم أو إجحاف، وأنهم تدارسوا فيما بينهم ماتحتاجه البلاد، ووضعوا لكل مايشكو منه الناس حلا يرضي غالبية الناس، وإن أغضب خاصتهم، وتذكروا أن ما أخرج الناس من بيوتهم صوب قصر الوالي هو شيوع الظلم وعموم الفقر، فعزموا ألا يضعوا في الزنبيل، قراراً يوقع الظلم على أغلب الناس، وعملوا جاهدين على كتابة فرمانات تُخفِّف فقرهم وعنائهم، وإن أغضبت أغنياءهم وسُراتهم، ولذلك كان حضرة الوالي الخروف، كلما مد فمه نحو الزنبيل، أخرج للناس ما يجعلهم يعتقدون أنه مؤيد من الله بالحكمة، ويجعلهم يفخرون لأنهم هتفوا ذات يوم "شيلوا الوالي وحطوا خروف.. يمكن يحكم بالمعروف".

"مااااااااء.. ماااااااء.. مااااااء"، علت أصوات ثغاء خروف مجلجلة في مسمعي، فأيقظتني مما تبين أنه غفوة طالت قليلا في إنتظار أذان المغرب، ولم تكن إلا أصوات الخروف الذي إحتجزه جارنا في منور العمارة منذ الأمس، ليذبحه لضيوف وليمة حاشدة يعد لها عما قريب، فنظرت إلى كتاب مولانا المقريزي الذي كنت أحمله بين يدي، فلم أجد فيه سطراً واحداً مما توهمته، فانتابني ضحك كالبكاء.

ـ فصل من كتابي (ست الحاجة مصر) نشرته يوليو 2011 ـ

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.