درس جاهلي

درس جاهلي

26 مايو 2019
+ الخط -
لمدة من حياته، عاش عنترة بن شداد منزويًا عن الأضواء، يؤدي وظيفته نهارًا ثم يركن للراحة ليلًا، وينعم بمنطقة الراحة التي ألف منطقها وظروفها. يومها، كان لسانه شحيح الركض في ميدان الشعر، يقول البيت والبيتين ولا يضيره، لكنه الفارس المغوار والمقاتل الشرس، يثيره التحدي ويدفعه لإظهار ملكاته الفذة. ظهر ذلك جليًا في حلبة النزال؛ فلم يعرف دائرة الراحة وهو على ظهر جواده الأبجر، لكنه استسلم للبخل الشعري واكتفى بالبيت أو البيتين!

ربما لظروف الحياة الصعبة أو للتمييز البغيض الذي مورس عليه، وقد يكون لعبلة في صيامه عن الشعر نصيب، أو لأنه يعالج أمورًا طوى عليها ستر الكتمان، ومهما يكن من أمر فإنه لم يتنبَّه لهذا البخل الشعري، ولطغيان فروسيته ظهر له في الحي من الأعداء صنوف؛ من يكرهه لشجاعته وقوة بأسه، ومن يبغضه لقوة منطقه وسرعة بديهته، وآخرون ينافسونه في محبوبته، وغيرهم كثيرون ممن اتضعت رتبتهم مقارنة به وتواضعت رفعتهم.


في هذه الأجواء، كان لا بدّ من مثير يدفع عنترة للإبداع، وتحدٍ قوي يجابهه ليخرج ما جَعبته؛ ليحرِّك مشاعر أبي الفوارس ويستنهض عزيمته الشعرية، ولا يتأخر هذا الباعث على الإبداع، وإن ظهر في أردية المحنة. انظر هنالك، ها هو عنترة يمر بين عدد من الشباب المتسكع، ويقف شقي منهم ليهزأ بعنترة، لعلك تسمعه وهو يسخر من لون بشرة عنترة، ثم يعيّره بأمه زبيبة وكانت من الإماء، ثم يتقافز فرحًا وتستبد النشوة به ومن معه؛ فلا يراعون مشاعر عنترة ولا يحفظون له قدره.

غلت الدماء في عروق عنترة، لكنه أعقل من أن يسب سفيهًا أو أن يجاري في خُلُقٍ ذميمًا؛ فاكتفى بقوله: "... وأما الشعر فستعلم"، ثم مضى إلى حال سبيله. لم يدرك أحدهم أنه استفز شيطان شعر أبي الفوارس، ولم يدر بخلده أن أول ما سيقول عنترة بعد هذا الموقف عجبًا عجابًا، ولو أبصر أحدهم الغيب لضنَّ على عنترة بهذا الاستفزاز، ولحرص أيما حرص على لجم لسانه، لا لشيء إلا ليحول بين عنترة وتحقيق أيّ إنجاز.

ويشاء ربك أن أول ما ينطق به عنترة شعرًا بعد هذا الموقف السخيف قصيدته "المذهَّبة"، وهي أجود شعره، ومطلعها (هل غادر الشعراء من متردم/ أم هل عرفت الدار بعد توهُّم)، والتي احتفت بها العرب فزينت بها نحور النساء وعلقتها على الكعبة. يقال: ردِّم ثوبك أي رقِّعْه، وثوب مُرَدَّم يعني مُرقَّع؛ فيقول عنترة: هل ترك لنا الشعراء السابقون شعرًا نترنم به؟ وهل تركوا مقالًا لقائل؟ وهذا من أمثال العرب التي أخذت عن أبي الفوارس.

ربما ظل عنترة خامل الذكر في حلبة الشعر لو لم يستفزه بعض السفهاء، وأنت لا تعرفهم وقد ضرب التاريخ عليهم (النسيان)، وقضى عنترة نهمته وأدرك طِلبته. ليس في استفزازهم وتطاولهم وسوء خلقهم ما يبرر تراخيك عن هدفك، بل إن قعودك عن صيدك نتيجة تثبيطهم هو عين بغيتهم؛ فلتجهز عليهم بصمتك والتزام طريقك وتحقيق نجاحات يعجزوا عن بلوغها.

قديمًا قيل لحكيم: بمَ ينال المرء من عدوه؟ قال: "بإصلاح نفسه"، ولم يتطرق الحكيم لمزيد من التفصيل والتحليل، وعلى هذه الطريقة كان عنترة، وقد أصلح من شعره بأن أذاع في الدنيا معلقته، وطار بها في الخافقين ذكره، وقطع على الموتورين سبيل النيل منه في هذا الجانب، وأورثهم كمدًا ألجمهم وذبح تخرصاتهم. ماذا لو انبرى عنترة يشكوهم في المحاكم، أو يتعقبهم في الخيام ويترصدهم على مدى الأيام، لكنه أدرك أن حياته أهم من الانزلاق في ترهاتهم والسقوط في مستنقعهم؛ فبادر يعالج خلل نفسه ويصلح من شأنه، وحجز لنفسه تذكرة في عالم المبدعين والخالدين.

مرت 1411 سنة على وفاة عنترة، وحتى الساعة نذكره بخير، ولم تجمع لنا الكتب سطرين عن حياة من عابوا عليه ندرة شعره، وأبى التاريخ أن يخلد ذكر من سابَّه؛ فالتاريخ ينتقي ويصطفي لنفسه من الأسماء ما شاء؛ فإن كنت تتلمس طيب الذكر وحسن السيرة؛ فاحرص على ما ينفعك، وإياك وسفاسف الأمور، واطرح عنك كلَّ من ينتقص قدرك أو لا يناسب همتك وهمك، واهجر من لا يوافق طموحك، وليكن هجرك هجراً جميلاً.

دلالات