عودة توما الحكيم

عودة توما الحكيم

21 مايو 2019
+ الخط -
في المدى المنظور، تشهد الساحة العربية ارتفاع أسهم توما الحكيم، ويهلل له كثيرون ممن آثروا أن يهرفوا بما لا يعرفوا. قبل قرون - وكما أخبرني أبو حيان التوحيدي وغيره - كان توما أجهل العرب، لكنه اليوم يرتدي أفخم الثياب، ويمطر من حوله بكلمات عريضة ومصطلحات عميقة؛ فتارة يحذرهم من الظلامية، وأخرى يتحدث عن الأوليغاركية والتوليتارية والمهلبية، وترى أفواهًا فاغرة وعيونًا شاخصة، وهي تستمع للتحليلات التي يلقيها توما عليهم ليل نهار.

وبعد أن خلع على نفسه بعضًا من المناصب الرخيصة والألقاب الفضفاضة، وهي ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها، يخرج توما عبر تويتر مغردًا حول الدور التاريخي لليهود، مُتغزِّلًا في دورهم الحضاري، ومرحِّبًا بهم في عقر داره، آملًا أن يلتقيهم قريبًا في أرضهم وديارهم!

نسي توما أنه لا يزيد عن أحمق، ولكل داءٍ دواءٌ يُستطبُ به إلا الحمق، وتغافل توما عما أوقع نفسه فيه لفرط ما يجد من العمه، والعمه في الطب فقدان ملكة الإدراك بالحس، كأن يعجز توما عن التمييز بين أشكال الأشياء والأشخاص وطبيعتها؛ فيخبط فيها خبط عشواء، وفي مثل توما قالت العرب: "فلان هذا من فرط نطاتِه (حمقه) لا يعرف قطاته من لطاته" (القطاة: الردف، واللطاة: الجبهة).


وقالوا: "أحمق بلغ"، أي أنه برغم حمقه بلغ المنزلة التي سعى إليها، وذلك لأن حمقه خدم أجندة التطبيع، ووافق هوى في نفوس أعداء الربيع.

واقترن حمق توما بطموحٍ حاد انقلب إلى مزمن؛ فبعد أن قرأ توما سطرين وسمع كلمتين، جنح به طموحه لأن يكتب ويغرد كما يغرد الآخرون، وإن كانوا يملكون شهادات أو مهارات؛ فلا بأس من أن يخلع على نفسه لقبًا، وليكن مثلًا مدير مركز للدراسات الاستراتيجية، ومن بعدها قرر توما أن يلتزم سياسة "خالف تُعرف"؛ فلا بدَّ من تلمُّس طريق سريع يأخذه لرحاب الباب العالي، ويفتح أمامه المغاليق ويختصر السبل ويطوي الطريق.

تأتي النهايات وفق المقدمات، وكذلك كانت نهاية توما؛ فحين ضاقت به عباءة المصلحات التي يستخدمها، أراد أن ينسلخ عنها ليجدد نفسه، وقرأ في بعض الكتب حديثًا نبويًا يقول: "إن في (الحية) السوداء شفاءً من كل داء.."، ولرعونته لم يتثبت من القراءة، ولم يطلب العلم للعلم بصدق، بل طلبه للفذلكة ولتصدُّر وسم تويتر وفيسبوك، ولو أنه التمس العلم عند أهله لردوه للجادة، ولأرشدوه للصواب، وأبلغوه أن الحديث - كما عند الإمام مسلم - يقول: (الحبة السوداء) وليست الحية، ولربما كُتبت الحية لخطأ مطبعي أو نتيجة السهو أو التصحيف، لكنه مدير مركز دراسات استراتيجية، ولا يليق به أن يسأل أو يستشير، وإنما دوره أن يُنظِّر ويشير ويتفلسف ويهبد، وربك يخلق ما يشاء ويختار.

بات شغل توما الشاغل أن يجد حية سوداء، واهمًا أنه على الحق، وظل يسفِّه آراء من حوله، ويدعوهم للحاق ركب الفهم والعقلانية والعصرنة، وينفخ في كير التسوية بين الرمزية الدينية للقدس عند اليهود ورمزية الحرمين عند المسلمين. لم يُخْفِ تحيُّزه المفضوح، بل تولى كبره وقال سآوي إلى جبل، وبعد محاولات كثيرة، مدَّ يده في جحرٍ ليظفر بالحية السوداء؛ فلدغته بسُمِّها الزُّعاف وقضى في التو واللحظة غير مأسوفٍ عليه.

قديمًا كان توما يركب حماره، واليوم ركب الفيل وقال لا تُبصِروني! لم يتغير سوى ملبسه وساعته الأنيقة وعطره الأجنبي، أما من الداخل فهو بيت خرب وفكر حطب، يرمي عن قوس إسرائيل ويتحدث باسمها، ويعلِّق ويغرِّد في صفحات مثل "إسرائيل بالعربية"، "بنيامين نتنياهو"، ويستأنس بجوقة من المُطبِّلين والمُطبِّعين، وتنتفخ أوداجه للدفاع عنهم؛ فما أتعس توما وأمثاله من دعاةٍ على أبواب التطبيع!

دلالات