ماهرون نحن في توسيع الصدوع

ماهرون نحن في توسيع الصدوع

20 مايو 2019
+ الخط -
الكثير من العوج والتذبذب العاطفي الذي يصيب العلاقات الإنسانية هو طبيعة أصيلة فيها. نتيجة طبيعية لتغير القلوب ودوران الزمن وتبدل الأحوال. والواحد فينا بعد أن تنهكه الحيرة عمرا طويلا وهو يطالع الأمثلة في نفسه وفي الناس، ويظل يتساءل عن كيفية حل المعضلات الاجتماعية التي لا يكاد يرضى أحد أطرافها حتى يسخط الآخر، لا يجد إلا الاستسلام لتشريع الله الذي ينظم الحقوق بمنتهى الحكمة والحساسية واللطف.

وأنا أدّعي أن العدل المادي والالتزام بكلام ربنا في تحمل المسؤوليات المترتبة على تغير القلوب والظروف في علاقاتنا بالبشر، يجبر الكثير من الكسر الذي يعتريها.

مثلا.. ما نراه الآن من فضائح ومساخر في قصص الطلاق هو في جزء منه نتاج شيوع حالات رغبة الرجل في الزواج الثاني التي عادة ما يقابلها المجتمع بسياط التشكيك في وفائه وولائه وحسن عشرته، ثم بالرفض والمكايدة والتضييق عليه في التبعات حتى يتمرد تماما، ويتهرب من مسؤوليته عن أولاده، ويمتنع عن إعطاء طليقته حقوقها، ويعتمد على عدالة بطيئة عرجاء قد يفلح بها في التملص من معظم واجباته. هكذا نشارك ببراعة في هدم نموذج الرجل والأب الصالح، ونحوله لوغد حقير لا يستحق سوى الازدراء والانتقام الإلهي.. الذي نثق أنه سيطاوله عاجلا أم آجلا على يد الزوجة الثانية "الغولة" التي لا تنتمي لجنس البشر طبعا!


ثم يأتي دورنا مع المطلقة، فلا نضن عليها بتعنت جاهل - ليس من الدين في شيء - يحكم على المطلقات إما بالوصمة وانعدام فرص الزواج، أو بالرهبنة الاختيارية حتى ينلن القبول والرضا الاجتماعي.

فيكون الطلاق بهذا الوضع هو ضياع كامل لأمل السيدة في تعويض مادي يقيها الحاجة، وفي تعويض عاطفي يتيح لها الزواج المتكرر لو وجدت إليه سبيلا.

يعني وكأن الطلاق بكل ألمه من أمامها، والفقر والمحاكم والبهدلة و"رهبنة" الإجبار بسيف الحياء والرضوخ لأعراف المجتمع من خلفها، فنرى الواحدة وقد استحالت تحت هذا الضغط وحشا لا امرأة. وما دامت خاسرة لكل شيء، فعليّ وعلى أعدائي! ترى ساعتها الطلاق نهاية لكل أمل وحق لها، فتستميت في تحطيم طليقها لآخر نفس!

لم يكن الناس في ما مضى بمثل ما نرى من تبجح في إفشاء الأسرار الخاصة وتجريح بعضهم البعض وفضح أدق خصوصيات العلاقات. والواحد هنا لا يلمح لما نراه من أحوال مشاهير هذا الزمن الرديء وفضائحهم الفضائية، بل أدّعي أن معظم قصص طلاق أبناء الطبقة المتوسطة أصبحت تنضح بمثل هذا السفور والتعري الأخلاقي البشع والذي لا يولي الستر والفضيلة والعشرة أي اعتبار، وينبري في تحطيم الآخر بلا رحمة سواء بالحق أو بالباطل.

ولو أننا في ثقافتنا المجتمعية وضعنا جانبا سياط الجلد والأحكام، وتركنا مساحة حرية للطبيعة البشرية، واحترمنا خصوصية العلاقات الإنسانية، وتسامحنا مع احتياجات البشر كما يفعل الله، لرفعنا عبئا بغيضا يجثم على أرواح الناس ويضيق عيشهم ويكرههم على ما لا يطيقون بلا أي مبرر سوى ملء الصورة الذهنية ضيقة الأفق التي رسمتها أعرافنا الجاهلية عن الصح والخطأ والعيب والـ"ما يصحش" والـ"بعد الشر!".

الوضع نفسه في المواريث.. يموت الرجل أو المرأة فيتم تقسيم مالهما بحكم الله، ويقوم الرجال المعنيون من الورثة بتحمل مسؤوليات المتوفى كاملة كما قسم الله أيضا. هذا هو المفروض.

أسمع أنه منذ مائة سنة مثلا كان الرجل يُسب ويُعير لو أن له ابن أخ متوفى فقيرا محتاجا، أو ابنة أخت تيتمت وكبرت على سن الزواج فيما زوّج هو بناته وأولاده، كانت سبة وعارا في حقه كرجل. وكان الأيتام وأمهاتهم ينضوون تلقائيا في وصاية الأعمام والأخوال فينجبر كسرهم ويعيش الكل حياة معقولة وصحية حتى ولو شابتها بعض المناكفات أو لو لم تكن بنفس رفاهية حياة الأب.

أما الحاصل الآن فهو أن الوارثين يأخذون أنصبتهم ثم لا يقومون بولايتهم الشرعية المفروضة على النساء والقصر، ويتركونهم لظروف الحياة تنهبهم ولو لحد الاحتياج الكامل والتشتت والقطيعة. ونبرر نحن ذلك بالتغاضي والصمت والقبول بحجج الانشغال وضيق الحال.

أرى والله شبانا وشابات تيتموا في الصغر، ولم يجدوا من أهلهم سوى الهجر والتهرب والابتعاد بحجة أنهم حصلوا على ميراثهم كاملا. والحقيقة أنهم يكبرون بجفاء رهيب مع المجتمع وكره لقوانينه الجائرة التي لم تعوضهم عن أبيهم بوصاية وحدب قريب مسؤول، بالرغم من أن الدين ينظم ذلك ويضمنه.

والنتيجة أن الأيتام يشعرون بالغبن من مقاسمة الأقارب لهم في الميراث، ويعتبرونه طمعا وجشعا، ويسري في الناس مبدأ كتابة الأملاك للأبناء قبل الوفاة حتى يحرموا الورثة ممن "لا فائدة لهم"، وكذلك تدعو النساء لتغيير أحكام المواريث نفسها، إذ بما أن الواقع يفرض على كلٍ تحمل مسؤولية نفسه، بلا اعتبار لحمل الفروض الواجبة بالشرع، فلنترك تقسيم الشرع إذن ولنرتب نظاما جديدا متفقا مع واقعنا!

الحياة الاجتماعية شديدة التعقيد بطبيعتها، ورأيي أن جوانب التشريع تعاملت مع هذا التعقيد بمنتهى الحرص والرهافة والفهم والتسامح مع الطبائع بحيث لا تؤدي التصدعات التي تطرأ عليها إلا لأقل قدر ممكن من الخسائر المادية والنفسية والعاطفية لكل الأطراف.

أما ما نحدثه نحن بأعرافنا وأخلاقنا البائسة فهو توسيع لتلك التصدعات حتى تستحيل هوات سحيقة من البغض والألم والقطيعة وفقدان الإيمان بمعانى الرحمة والحب، بل وتردي مستمر نشهده ليل نهار ونتعجب له ونمصمص الشفاه.

نقترف ذلك كله ونحن نتعلل بالأعراف والأصول ونظن أننا نحسن صنعا!

دلالات

6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى