كن شاهداً لا قاضياً

كن شاهداً لا قاضياً

20 مايو 2019
+ الخط -
جميل ومهم، أن ينصحك كتاب موهوبون وبارعون بما يفيدك في عملية الكتابة التي تهواها وترغب في إجادتها، أو إجادتها أكثر، لكن ليس هناك ما هو أجمل ولا أهم من أن يكون الناصح هو الأديب الروسي أنطون تشيكوف بجلالة قدره وروعة تجربته. ما يزيد في جمال وصايا تشيكوف وأهميتها أنه لم يكتبها أصلا كنصائح أو وصايا، لأنه لم يكن يحب أبداً أن يتخذ موقع الأستاذ المعلم الراغب في نقل خبرته للآخرين، كما يفعل بعض مشاهير الكتاب اليوم، بل وردت بشكل تلقائي خلال ملاحظاته التي كان يدونها في دفاتره الشخصية، وفي الرسائل التي كان يتبادلها مع شقيقه وبعض أصدقائه الكتاب، وهو في هذه الملاحظات والرسائل لا يملي خبرته على من هم أقل خبرة، بل هو يناقش تجربته الكتابية ويتأملها وهي تتشكل وتتطور.

من حُسن حظ عشاق تشيكوف أن تلك الرسائل لم تتعرض للإتلاف والضياع، وأنها أيضاً لم تظل حبيسة مكتبات جامعية تخصصها للباحثين فقط، فقد قام الباحثان بييرو برونيللو ولينا لينشيك بجمعها وترجمتها إلى الإنجليزية وتحريرها، وأصدرا مختارات منها في كتاب جميل يحمل عنوان (أن تكتب كأنك تشيكوف: نصائح ملهمة من قلب أدب ورسائل الأديب الروسي العظيم أنطون تشيكوف)، وهو كتاب وقعت في غرامه منذ أن قرأته، حتى أنني تحمست لأن يكون تجربتي الأولى في الترجمة، وأنشر بدءاً من اليوم مقتطفات منه، أهديها لعدد من القراء الذين أحسنوا بي الظن، فأرسلوا لي من قبل يسألونني أسئلة تتعلق بتقنيات الكتابة، ولم أجد أحداً أفضل ولا أجمل لكي يفكر معهم في إجابات لتلك الأسئلة، مثل أنطون تشيكوف وما كتبه في دفاتره ورسائله التي أضع بعضها بين أيديكم:

لمن يجب أن نكتب؟
(رسالة إلى الكسندر تشيكوف، موسكو، 20 فبراير، 1883)
كل ما عليك فعله أن تكون صادقا مع نفسك، إرمِ نفسك بحماس نحو أي شيئ، أي مكان، لا تجعل نفسك بطلا لروايتك. عندما تكتب قصة عن زوجين صغيري السن، فتجعلهما يمضيان أمسية كاملة دون أن يفعلا شيئا سوى تبادل القبلات والبكاء والكلام كطفلين، دون أن يقولا شيئا منطقيا، ودون أن يتفوها بشيئ سوى التفاهات اللذيذة، فأنت لا تفعل ذلك من أجل القارئ، بل تكتبه لأنك ذاتك تستمتع بذلك اللغو السخيف. لكن من ناحية أخرى، عليك أن تصف العشاء جيدا: كيف أكلا؟، ما الذي أكلاه؟، كيف كان الطهي؟، وعليك أيضا أن تصف بطلك وتظهر سوقيته والرضا الذي تمنحه له سعادته الخاملة، وسوقية بطلتك وسخافة حبها لهذا المتخم المفرط المزين بالمناديل الساذج الذي صار زوجا لها.... يجب أن تكون متأكدا أن الجميع يحبون رؤية الناس "الشبعانين" الراضين عن حياتهم، لكن لكي يصف الكاتب هؤلاء، عليه أن يفعل ما هو أكثر من إخبارنا بما تحدثوا عنه، وعدد المرات التي تبادلوا فيها القبلات، شيئ آخر نحتاج إليه هنا: الابتعاد عن ذلك الإنطباع الشخصي الواثق من أن سعادة المتزوجين حديثا دائما يمثلها أولئك الذين لم يبدأوا بعد في تبادل السخرية كما يفعل الأزواج.... الموضوعية شيئ مروع، لا لشيئ إلا أنها يمكن أن تلهي الكاتب المبتدئ عن جميع نقاط ضعفه.


كيف "لا" تكتب
(من دفتر ملاحظات الدكتور تشيكوف صفحة 125)
اللهم جنبني إطلاق الأحكام أو الحديث عن الأشياء التي لا أعرفها أو لا أفهمها.

لا للتلميع
(رسالة إلى ألكسندر تشيكوف، موسكو، 11 ابريل 1889)
لا تقم بتلطيف الحواف الخشنة، لا تقم بالتلميع، كن شجاعاً وأخرق، القدرة على الإيجاز أخت الموهبة.

ـ ليس ما رأيته هو المهم، ولكن كيف رأيته

(رسالة إلى أليكسي سوفرين، س س بايكال، شارع تارتار، 11 سبتمبر 1890)
رأيت كل شيئ، لذلك ليس السؤال ما الذي رأيته، بل كيف رأيته.

اختصر بلا رحمة
(رسالة إلى أليكسي سوفرين، موسكو، 6 فبراير 1889)
روحي مليئة بالكسل والإحساس بالحرية. ها هو دمي يستعجل ملاقاة الربيع. على أية حال أواصل العمل. أعد مادة للمجلد الثالث. أختصر بلا رحمة. حدث شيئ غريب: لقد توسعت في جنون الإختصار. ليس مهما ما إذا كان ما أقرأه لي أو لغيري، كل شيئ بات يبدو لي طويلا جدا.

كن شاهدا، لا قاضيا
(رسالة إلى أليكسي سوفورين، سومي، 30 مايو 1888)
في رأيي، ليس من عمل الكاتب أن يحل مشاكل تشغل بال الناس مثل وجود الله أو التشاؤم، إلخ إلخ. مهمة الكاتب أن يقوم فقط بتسجيل من قال ماذا عن وجود الله أو التشاؤم، وتحت أي ظروف قال ذلك. لا يجب على الفنان أن يحاكم شخصياته أو ما يقولونه، عليه فقط أن يكون شاهدا منصفا. لقد استمعت بالصدفة إلى روسيين يجريان محادثة مشوشة وغير مقنعة عن التشاؤم. واجبي يلزمني أن أنقل هذه المحادثة بالضبط كما سمعتها. أما تقييمها فهو وظيفة هيئة المحلفين، التي أقصد بها هنا القراء.

عملي يطلب مني شيئا واحدا: أن أكون موهوبا بالقدر الذي يمكنني من التمييز بين ما يقال في المحادثة من أدلة لها علاقة بالموضوع وما ليس كذلك، ولكي أضيئ الشخصيات للقارئ، وأتكلم بلغة كل شخصيةـ لينتييف انتقدني لأنني أنهيت قصتي بجملة تقول: "لا تستطيع حقا أن تشرح لماذا تحدث الأشياء في هذا العالم". هو يرى أن الكاتب الخبير بالنفس البشرية لا بد أن يقوم بالتفسير، وإلا فإنه لا يستحق أن يدعو نفسه خبيرا بالنفس البشرية. لا أوافق على ذلك. لقد حان الوقت الذي يجب فيه على الكتاب خصوصا الفنانين الحقيقيين منهم أن يعترفوا بأنه من المستحيل تفسير أي شيئ. سقراط أدرك ذلك قبل وقت بعيد، وفولتير أيضا. الجمهور وحده هو الذي يعتقد أنه يعرف ويفهم كل شيئ، وأن كل شيئ يمكن فهمه ومعرفته. والأغبى من ذلك من يدعي أنه يمتلك عقلا منفتحا ويظن أن ذلك ممكن. ولذلك إذا أقر فنان يثق فيه الجمهور بأنه لا يفهم أي شيئ مما يراه، فإن هذه الحقيقة لوحدها ستشكل إسهاما عظيما في دنيا الفكر، وستكون خطوة عظيمة إلى الأمام.

لا من أجل الشهرة ولا الربح
(رسالة إلى أليكسي سوفورين، موسكو، 23 ديسمبر 1888)
سيكون منطقياً أكثر من الكتابة من أجل النقاد، أن تطلب من شخص يعاني من الأنفلونزا أن يشم الورود. هناك أوقات أجد فيها نفسي فاقدا لشجاعتي تماما، فأسأل نفسي: لماذا ولمن وإلى متى أكتب؟، هل أكتب للجمهور؟، لكنني لم أر هذا الجمهور رأي العين أبدا، وإيماني بوجود الأشباح أقوى من إيماني بوجوده، إنه جمهور غير متعلم وسيئ السلوك، وفي أحسن الأحوال يعاملنا دون ضمير ودون إخلاص. ليست لدي أدنى فكرة إذا كان هذا الجمهور حتى يحتاجني فعلا. "بورينين" يقول إنه لا يحتاجني وأنني أضيع وقتي، لكن الأكاديمية في نفس الوقت منحتني جائزة، إذن ماذا يعني كل ذلك؟. هل ما أريده من الكتابة هو المال؟، أنا لم يكن لدي مال أبدا، ولذلك تعودت ألا يكون لدي مال أبدا وألا أبالي به. ببساطة لا أستطيع أن أجبر نفسي على العمل من أجل المال. فماذا أريد إذن؟، هل هو المديح؟، إن المديح لا يفعل بي شيئا سوى إزعاجي. إن جمهرة من الأدباء والدارسين، ييفرينوف، بليشكيفيف، وخادمات عجوزات، إلخ إلخ، كل هؤلاء انهالوا مديحا على ما كتبته في "هجوم جسور"، لكن جريجوروفيتش وحده لاحظ كيف وصفت بداية سقوط الثلج. إلخ، إلخ، لو كان لدينا نقاد ذوو شأن كنت سأضمن أنني مادة تستحق الاقتناء، بغض النظر عما إذا كانت جيدة أو سيئة، هذا لا يهم، كنت سأتأكد أنني ضروري لأولئك الذين سيكرسون أنفسهم لدراسة الحياة، كما يكون كوكب من الكواكب ضروريا لعالم فضاء. لو كانت هذه هي القضية، كنت إذن سأغرق نفسي في عملي وأنا أدرك أنه سيكون له هدف. لكن الأمور كما أراها الآن، هي أنني وأنت و"مورافلين" وبعض الأرواح القريبة إلى النفس، لسنا سوى رجال مجانين نلعب بكتابة الكتب لا لشيئ إلا من أجل متعتنا. بالتأكيد أمر رائع أن يحصل المرء على المتعة، خصوصا إذا كان يحصل عليها طيلة قيامه بالكتابة، لكن ماذا عن انتهاء الكتابة، ماذا بعد؟. هناك شعوب وأديان ولغات وثقافات بأكملها اختفت من الوجود بدون أدنى أثر لأنها لم يكن لديها مؤرخون أو علماء يوثقون وجودها، وهذا تماما ما حدث بنفس الطريقة لعشرات من الأعمال والأشخاص الذين تلاشوا أمام أعيننا لأنه لم يكن هناك أي نقاد.

جمهور الكاتب
(رسالة إلى أليكسي سوفورين، موسكو، 26 ديسمبر 1888)
أنت تقول إن المرء لا يجب أن يكتب من أجل النقاد، وإنما للجمهور، وأنه من المبكر جدا أن أبدأ بالشكوى. بالطبع كم أحب أن أفكر أنني في الحقيقة أكتب من أجل الجمهور، لكن كيف لي أن أعرف أن هذا ما أفعله حقا؟، إذا كنت أنا نفسي لست راضيا عن عملي، ربما لأنه تافه أو ربما لسبب آخر. الجمهور (ولاحظ أنني لم أستخدم تعبير العامة) في نفس الوقت يعاملنا ككتاب دون أمانة ودون إخلاص، ولن يخبرنا أبدا بالحقيقة، لذلك لن يكون هناك أبدا طريقة لمعرفة ما إذا كان يريدني حقا أم لا. بينما لا زال الوقت مبكرا للشكوى كما تقول، فإنه ليس مبكرا أبدا أن أسأل ما إذا كان ما أفعله عملا جادا أم مجرد لعبة. النقاد لا يقولون شيئا، الجمهور يكذب، وإدراكي الشخصي يخبرني أنني أضيع وقتي في هراء. هل كنت أشكو؟، لا أتذكر كيف كانت لهجة رسالتي، لكن لو كنت أشكو، فأنا أفعل ذلك من أجل نفسي، بل أفعله من أجل كل إخوتي في الكتابة الذين أشعر نحوهم بشفقة لا متناهية.

من الحلم إلى القصة
(رسالة إلى أليكسي سوفورين، ميليكوفو، 25 يناير 1894)
لم أكتب (الراهب الأسود) تحت سطوة الإكتئاب، ولكن في حالة كاملة من التفكير المتزن. لقد شعرت فقط أنني أريد أن أعطي صورة عن جنون العظمة. صورة لراهب جاءني في الحلم وهو يطوف عابرا الحقول، وعندما استيقظت في الصباح أخبرت ميشا عنه. لذلك أرجوك أخبر أنا إيفانوفنا أن أنطون تشيكوف المسكين، ولله الحمد، لم يفقد عقله بعد، وأنه يأكل كثيرا على العشاء، وربما لذلك فهو يرى الرهبان في أحلامه.

الفن لا يجب أن يحل المشاكل
(رسالة إلى أليكسي سوفورين، موسكو، 27 أكتوبر 1888)
تنتابني الهرطقات الإلحادية أحياناً، لكني أبداً، ولا حتى لمرة، تماديت في الهرطقة لدرجة أن أنكر حقيقة أن الأسئلة الكبيرة ليس لها مكان في الفن. في محادثات مع رفاقي الكتاب، أصر دائما على أنه ليس من عمل الكاتب أن يشق على نفسه بحل الأسئلة المتخصصة. من السيئ جدا للكاتب أن يعالج مشكلة لا يفهمها. لدينا خبراء متخصصون في الأسئلة المتخصصة، ومهمتهم أن يأخذوا قرارات بخصوص "كوميونات" الفلاحين، وقدر الرأسمالية، وشرور الكحوليات، والمراكب وشكاوى النساء.... ولذلك أقول دائما وأكرر إن الفنان يجب أن لا يصدر حكمه إلا على ما يفهمه فقط، لأن ميدان خبرته محدود جدا كباقي الخبراء. وكل من يقول إن ميدان الكاتب ليس به مكان للأسئلة، بل يجب أن يتعامل فقط مع الإجابات، هو بالتأكيد لم يمارس الكتابة وليس له أي علاقة بالخيال. الفنان يراقب، يختار، يخمن، ويرتب، كل واحدة من هذه العمليات تستلزم منذ البداية طرح الأسئلة. وإذا لم يسأل الفنان نفسه في البداية، لن يكون لديه شيئ لكي يخمنه أو لكي يحدده.

أنت محق عندما تطلب من الكاتب أن يكون واعيا بما يفعله، لكنك هنا تخلط بين مفهومين: حل المشكلة وتصحيح صياغة المشكلة. المفهوم الأخير هو وحده المطلوب من الفنان. لا توجد مشكلة واحدة تم حلها في (أنا كارنينا) أو لدى (يوجين أونيل)، ومؤخرا أصبحت الروايات ترضيك تماما بسبب كل المشكلات التي تطرحها أو تقوم بتصحيح صياغتنا لها. إن واجب المحاكم أن تقوم بتصحيح صياغة المشاكل، لكن أعضاء هيئة المحلفين يقومون بحل تلك المشاكل، كل طبقا لفهمه.

ارسم حياة مليئة بالصدق
(رسالة إلى أليكسي بليشكييف، موسكو، 9 ابريل 1889)
روايتي حققت قفزة إلى الأمام قبل أن تهوي لترتطم بالأرض، في انتظار تقلُّب الموج. لقد أهديت هذه الرواية لك، أخبرتك بذلك من قبل. لقد قررت أن أتخذ من حياة عدد من الأشخاص الصالحين، شخصياتهم، أفعالهم، كلماتهم، أفكارهم، وآمالهم، أساساً لروايتي. هدفي من ذلك أن أضرب عصفورين بحجر واحد، الأول: أن أرسم حياة مليئة بالصدق، والثاني: أن أُظهِر في نفس الوقت وجود امكانية للإختلاف عن النموذج أو المعيار الذي تسير عليه حياة الناس. لم أتمكن بعد من التوصل لطبيعة هذا النموذج أو المعيار، ولا أظن أن أحدا فعل. نحن نعلم ما هو التصرف المخل بالشرف، لكن ربما ليس لدينا فكرة عما يجب أن يكون عليه الشرف نفسه. لذلك تعمدت أن أحتفظ بإطار عمل قريب إلى قلبي أستخدم في اختباره الناس الذين هم أقوى مني وأكثر ذكاءا.

.....

نكمل قراءة مختارات أخرى غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.