المتعثرون الثلاثة ورابعهم الحكومة

المتعثرون الثلاثة ورابعهم الحكومة

19 مايو 2019
+ الخط -
على مقهى شعبي صغير بشارع 26 يوليو الشهير، في وسط القاهرة جلس ثلاثة أصدقاء يجرون الذكريات الأليمة مع المال والسلف والتعثر في السداد، كانت ترتسم على وجوههم علامات الحزن والأسى، وكأنهم كانوا قبل لحظات في عزاء صديق رابع لهم، كان الثلاثة قد خرجوا للتو من تجربة تعثر مادي حادة قادت بعضهم إلى السجن لسنوات بسبب عدم سداد ديون مستحقة عليهم وكتابة شيكات وكمبيالات بلا رصيد.

كان ما يجمع بين الأصدقاء الثلاثة صفات التفاخر والتباهي بالمال إلى حد "الفشخرة"، والحرص على حيازة الأموال حتى ولو كان جلبها يأتي عن طريق السلف والدين، وكذا الإسراف في الإنفاق بشكل لا يتفق مع دخله، مع ممارسة سياسة الخداع على من حولهم، والزعم بامتلاك أموال كثيرة في حوزتهم رغم أنهم كانوا مدينين لطوب الأرض، كانوا يفعلون الكثير ليكونوا محور اهتمام من حولهم، وربما للسبب الأخير كانوا يختارون هذا المقهى الواقع خلف سينما "كوزموس" حيث يجدون بجوارهم أشهر كومبارسات السينما المصريّة الذين يأخذون صور "سيلفي" معهم يرسلونها لأصدقائهم على "واتساب".

في مساء يوم الخميس من شهر يوليو/ تموز شديد الحرارة، اختار الأصدقاء المتعثرون أحد الأركان الجانبية الهادئة داخل المقهى الشعبي الذي افتُتح قبل أكثر من 60 عاماً للجلوس فيه، كانوا يخشون الجلوس خارج المقهى، فربما كان هناك دائن لهم يلمحهم وهو يمر في الشارع، أو دائن يجلس على الطاولات الخارجية في نفس المقهى، وبالتالي يسبب لهم حرجا أمام نجوم السينما من الصف الثاني والثالث والكومبارسات الجالسين على الطاولات المجاورة.


تاجر الأخشاب
من وراء نظارة سوداء، وبعد أن شد نفساً طويلا من الشيشة التي أحضرها النادل للتو بدأ جمال الشحات تاجر الأخشاب والأثاث يحكى تجربته مع التعثر والمال، حيث قال: كنت أعيش في منطقة متوسطة الحال، أمتلك شقة أعيش فيها أنا وأولادي الأربعة، وكنت استأجر محلاً قريباً من الشقة أبيع فيه الأثاث والموبيليا، كانت الحياة ماشية، والدخل يكفي ويزيد.

ذات يوم فكرت في توسيع نشاطي، اقترح علي أحد الأصدقاء اقتراض مليون جنيه من أحد البنوك، بهدف إقامة مشروع صغير عبارة عن ورشة نجارة، اقترضت المبلغ بالفعل، لكن المبلغ طار مع الرياح بسبب النزوات الشخصية.

وبصوت منكسر حزين يواصل التاجر حديثه لصديقيه الجالسين بجواره: كنت أحب التفاخر بامتلاك المال، وكنت ممن يطلقون عليهم لقب "محدثي نعمة" فأنا ممن عانى الفقر في طفولتي، كنت أحياناً أضع يدي في جيبي وأنا جالس على المقهى المجاور لمحلي وأخرج ألف جنيه وألوح بها في الهواء حتى يراها من حولي، ثم أعيدها إلى جيبي مرة أخرى، بعدها أشعر بنشوة امتلاك المال. كان الأمر يتكرر عندما يدخل المحل زبون، كنت أفتح درج المكتب ليرى الزبون الأموال الكثيرة فيه.

يلعب جمال في شاربه الذي اكتسى بالبياض وعلامات الأسى تكسو وجهه: المهم بدلاً من استثمار القرض الذي حصلت عليه من البنك في المشروع الصغير والاستفادة منه كما كنت أخطط، "وزّني" الشيطان الرجيم، رحت أنفقت القرض على رفاهيات ونزوات لا لزوم لها، اشتريت سيارة جديدة بقيمة 350 ألف جنيه وبعت السيارة القديمة التي كنت أمتلكها برخص التراب، شبه أهديتها لأحد الجيران من باب التفاخر، تزوجت زيجة ثانية كلفتني 400 ألف جنيه، كانت زبونة تتردد على المحل من وقت لآخر، طرت أنا والزوجة الجديدة إلى مدينة شرم الشيخ حيث قضينا هناك عشرة أيام صرفنا خلالها 75 ألف جنيه.

فجأة وجدت أن المليون جنيه بدأ يتسرب من بين يدي، لم يتبق سوى 175 ألف جنيه ولم أفعل شيئا في المشروع، أنفقت حوالي 50 ألف جنيه أخرى خلال شهرين، سارعت وأودعت ما تبقى من القرض وهو 125 ألف جنيه في أحد البنوك حتى أتمكن من سداد الأقساط الأولى للقرض، لكن بعدها سحبت باقي المبلغ من خلال بطاقة الصراف الآلي لأصرفه.

يشد تاجر الأثاث والموبيليا نفساً من الشيشة ويطلق الدخان المستنشق في الهواء الطلق: أخفيت ما حدث عن أولادي وزوجتي الأولى، لم أسكت وأفكر في علاج الكارثة المالية التي ألمت بي، بل واصلت داء التفاخر، حيث كنت أجلس في أفخم المقاهي وأذهب إلى أغلى مطاعم المهندسين ومصر الجديدة، وأزعم للناس أن لدي أمولا كثيرة في البنك وأنني أمتلك وديعة كبيرة، وحتى أثبت ذلك عمليا كنت أقرض من حولي بعض المال الذي يحتاجونه، وأبالغ في دفع "بقشيش" أو إكرامية للعمال في المقاهي والمطاعم التي أتردد عليها.

يكتم تاجر الأثاث والموبيليا أنفاسه ثم يسحب نفسا طويلا من شيشة الدخان التي يتصاعد منها الدخان الأبيض، ويكمل سرد ذكرياته مع الدين والتعثر: وتمر الأيام، ويطالب البنك بسداد مستحقاته، تعثرت في السداد، تراكمت الفوائد والأقساط حتى قارب مبلغ المليون على المليون والنصف بالفوائد المتراكمة، تم الحجز على شقتي وسيارتي، وبيعهما في مزاد، لم تكفِ الأصول التي بحوزتي لسداد أموال البنك الذي قدم الشيكات التي وقعت عليها لضمان القرض للمحكمة فتم سجني 3 سنوات.. لقد انهار كل شيء، زوجتي تجلس عند ابنتها الكبيرة المتزوجة من طبيب لغضبها الشديد مني بسبب الزواج الثاني وتوريط نفسي والأسرة كلها في مشاكل مالية مستمرة، أما أنا فقد استأجرت شقة في منطقة شعبية للعيش فيها مع أولادي المطالبين بسداد الديون المستحقة علي بعد مماتي.

إغراء البورصة

ينظر أمير شهاب الدين المهندس الشاب بإحدى شركات المقاولات الحكومية إلى صديقه جمال تاجر الأثاث المتعثر الذي يجلس على يساره ويطأطئ برأسه مساندا له في محنته، قائلا له "لا تحزن، كلنا في الهم سوا".

لم يكتف المهندس بهذه المساندة المعنوية لصديقه المتعثر، بل بدأ سرد قصته الشخصية مع التعثر لصديقيه الجالسين بجواره، قائلاً بعد أن امتدت يده إلى كوب الشاي الذي أمامه: أحد الأشخاص أغراني بقصة الاستثمار في البورصة، اقترضت 500 ألف جنيه من صديق عمري الذي أبلغته أنني في حاجة ماسة إلى هذا المبلغ وسأعيده له في غضون شهرين، ذهبت إلى شركة سمسرة في الأوراق المالية وطلبت استثمار هذا المبلغ في البورصة وشراء أسهم، وزاد اقتناعي بالأمر بعد أن قرأت قصصا كثيرة عن مستثمرين في البورصة حققوا أرباحاً خيالية وسريعة خلال فترة زمنية محدودة، كما أقنعني شخص آخر بضرورة الاستثمار في العملات الرقمية خاصة "بيتكوين" حيث الأرباح الخيالية والسريعة.

في البداية، ربحت 50 ألف جنيه ومثلها في أقل من أسبوعين، إلا أن البورصة تعرضت لضربة شديدة، وخسارة وراء خسارة، وكذا الحال بالنسبة للعملات الرقمية، والنتيجة أنني خسرت 400 ألف جنيه من أموالي خلال 3 شهور، ذهبت إلى السمسار وسألته عن أموالي فقال لي: البورصة ربح وخسارة، ربحت الأول 100 ألف جنيه وبعدها خسرت 300 ألف، طلبت من السمسار تصفية محفظتي وتسليمي المبلغ المتبقي وهو 300 ألف جنيه.

أخفيت واقعة الخسارة عن جميع من حولي بمن فيهم أسرتي، وبدلا من معالجة الأزمة اقترضت المزيد من المال وبعت ذهب زوجتي بعد أن أقنعتها أن أمامي مشروعا مربحا، واصلت الاستثمار في العملات الرقمية المشفرة حيث عرفت طريقي لعملات أخرى منها ستيلر وواكس وبيتكوين برايفت والريبل والداش والايثريوم وغيرها، وكانت النتيجة خسارة كل ما أملك حيث شهدت كل هذه العملات انهيارا في عام 2018.

المشكلة الآن ليست في زوجتي التي فقدت ذهبها، ولا في المدينين الآخرين، المشكلة في صديقي الذي اقترضت منه نصف المليون جنيه، لقد طالبني بالمبلغ أكثر من مرة وتهربت لدرجة أنني فكرت أن أترك مقر سكني وأذهب للسكن في مكان بعيد وأغير تليفوناتي، لكن الخجل يمنعني، فصديقي صديق للعائلة أيضا ويعرف أخوتي، أنا في مشكلة حقيقية لا أعرف كيف أسدد هذه الأموال.

المحاسب الفنجري

يربت عبد الرحمن الصديق الثالث على كتف صديقيه جمال وأمير ويواسيهما بقصته هو الآخر مع التعثر، قائلا: أنا مجرد محاسب في إحدى المصالح الحكومية، أبلغ من العمر 30 سنة، ورغم أنني محاسب مهمته عمل توازن بين الإيرادات والمصروفات، إلا أنني لم أضبط نفقاتي في يوم ما، راتبي الشهري كان يبلغ 3 آلاف جنيه بما فيه العلاوات والحوافز، يعني يا دوب.. الدخل يكفي المصروفات بالعافية، توسعت في الاقتراض رغم أن أمي كانت تردد على مسامعي دوما بعض الأمثلة العامية التي تحذرني من ذلك مثل "على قد لحافك مد رجليك" وتحثني على الادخار حتى ولو جنيهات قليلة "الجنيه الأبيض ينفع في اليوم الأسود"، بل وحاولت مساعدتي لكنها فشلت.

في بداية الشهر كنت أتلقى راتبي كالعادة، وبدلا من الصرف على الالتزامات الشهرية من نفقات أكل وشرب وسداد فواتير المياه والكهرباء والموبايل وإيجار السكن وغيرها كان المرتب يطير قبل منتصف الشهر، وأحيانا في العشرة أيام الأولى، بعدها ألجأ للاقتراض لتغطية نفقات باقي الشهر، كنت اقترض ما يعادل راتبي وأحيانا 5000 جنيه حتى أنفق منها على البيت والعزومات والخروجات والمطاعم والمقاهي والسجائر وغيرها.

وبعدها دخلت في دوامة من الديون، طبقت سيناريو الحكومة بحذافيره، كنت أقترض لسداد الديون المستحقة للدائنين، وبعدها اقترض أكثر لسداد الديون المستحقة والباقي أصرفه، المشكلة الآن هي أن من حولي فقدوا الثقة في قدرتي على السداد، لم يعد أحدا يوافق على منحي قروضا بعد أن أصبحت سمعتي المالية سيئة، تعثرت حتى في سداد مصروفات أولادي المدرسية، تعثرت في تلبية احتياجات المنزل، زوجتي غضبت وتركت البيت بصحبة أولادي الصغار، سؤالي من يسدد كل هذه الديون.

هدوء لثوان بعدها يستيقظ الأصدقاء الثلاثة فجأة على صوت ضحك وقهقهة عالية من شخص كان يجلس في الطاولة القريبة منهم، ظنوا في البداية أنه يضحك على شيء يخصه، أو أنه سمع نكتة أعجبته من شخص يجلس على نفس الطاولة، لكن الأصدقاء اكتشفوا أنه يضحك عليهم، فهذا الشخص كان يتابع اعترافات الثلاثة عن بعد، يستمع لحواراتهم وتجاربهم مع التعثر والتبذير والفشخرة والمغامرات المالية والعاطفية، وبصوت سمعه كل من يجلس في المقهى الشعبي قال هذا الشخص "أنتم مثل الحكومة تستدين من طوب الأرض، تقترض لتسدد، ويوم بعد يوم تغرقنا في الديون، وفي نهاية العام تخدعنا بالقول إن لديها فائضاً أولياً في الموازنة العامة، اعترفوا أولاً أنكم متعثرون".
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".