أساءَ سمعاً فأساء جابة!

أساءَ سمعاً فأساء جابة!

15 مايو 2019
+ الخط -
أواخر سبتمبر/ أيلول 2003، ألقى منتج نشرة الجزيرة هذا الصباح، محمد بابا ولد أشفغ، نظرة سريعة على وكالات الأنباء، ووقف على خبر عاجل من العاصمة الأفغانية كابل، ومفاده أن انفجارًا في كابل أسفر عن سقوط قتلى وجرحى. حرر المنتج الخبر وطلب إلى منتج المقابلات أن ينفذ مهمة ما، وتأتي هذه المهمة لتقدم لنا درسًا حياتيًا فريدًا من نوعه.

كلَّف ولد أشفغ زميله -منتج المقابلات- أن يتصل بالمراسل (الطاهر)، ولم يوضِّح أنه يريد الطاهر عمارة مراسل الجزيرة في أفغانستان، وظن أن زميله اطلع على الخبر العاجل، وأن الإشارة تكفي في هذا المقام، وليس بالضرورة أن يقدم المعلومة بالتفصيل؛ فكلُّ لبيبٍ بالإشارة يفهم.

وخلال النشرة، قرأت المذيعة خبر كابل، ثم قالت: "ومعنا من عين المكان مراسلنا الطاهر.. الطاهر! صف لنا الانفجار، ليجيبها الطاهر: "ليس هنا انفجار؛ هنا مفاوضات". في هذه اللحظة فقط، انتبه منتج النشرة للخطأ الذي وقع؛ فقد توهَّم الرجل أن منتج المقابلات اتصل بمراسل الجزيرة في أفغانستان، لكنه قد اتصل بطاهرٍ آخر، اتصل بالطاهر المرضي مراسل الجزيرة في السودان.


ساعتها، كان الطاهر المرضي في نيفاشا الكينية، ينقل المفاوضات الساخنة لحكومة الخرطوم مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. أدى سوء التوقع لهذا الخطأ، سوء توقع المنتج أنه أوصل رسالته بوضوح، وسوء توقعه أن زميله تابع الخبر العاجل، وأن متابعة الخبر العاجل من نافلة القول، وعليه فقد تغاضى عن التفصيل واعتمد الإجمال.

لم يعطِ الأمر بوضوح لا يشوبه شك، ولم يتأكد من فهم المتلقي للمطلوب منه؛ فكان أن حدث هذا الخطأ، وكلما كانت الرسالة واضحة كانت احتمالات تنفيذها على النحو الصحيح أكبر. كم مرة وقعت في خطأ نتيجة سوء إيصال رسالتك! وكم مرة احتجت إلى التبرير والتفسير وربما الاعتذار! ولو أنك قدمت رسالتك واضحة جلية؛ لاستغنيت عن كثير من الأخطاء وسوء العاقبة.

كل حديث بينك وبين الآخرين يمثل عملية تواصلية، ومكوناتها المرسل والمستقبِل والرسالة، وقد تكون العملية عرضة لسوء الفهم. ينجم سوء الفهم عن غموض الرسالة أو تشويشها أو لاختلاف التوقعات، وقد يترتب على ذلك فشل العملية التواصلية، أو إحداث ثُلمة لا تُسد.

عندما تصل رسالتك إلى الزوجة مشوهةً أو ناقصة؛ فإنك تسوق على نفسك الويلات، وتلقي بنفسك في حلبة العذابات، وتستمطرها التأنيب والتبكيت ووجع الرأس، مع قدر لا بأس به من تذكيرك بأفضالها التي لا تعد ولا تحصى، مع التعريج على قلة اهتمامك وانعدام تقديرك لأدوارها في حياتك. أما إن أحسنت إيصال رسالتك؛ فإنك ستتجنب مثل هذا الصدام العنيف، وتفوِّت عليها فتح الدفاتر القديمة، وربما تبتسم في وجهك، أو تقول لك كلمة طيبة، وبهذا تكون من المحظوظين في هذا الزمان.

احرص على إيصال رسالتك واضحة لا غموض فيها، وتجنب ما يجرك إلى "أنا كنت أقصد، وأنا كان مرادي، لقد أسأتِ فهمي، لم أحسن التعبير، خانني اللفظ" إلى آخر هذه القائمة التي لن تغيِّر موقفها منك.

لعلك تعلم أنه بين مقصود لم يُنطق ومنطوق لم يُقصد تظهر مساحة من سوء الفهم -ربما أوسع من الثقب الأسود- ومساحة من ردود الأفعال غير الصحية، وعندها يقول المرء "ياريت اللي جرى ما كان"، وبمقدورك تجنب هذه المزالق من خلال إيصال رسالتك من دون التعويل على ألمعية الطرف الآخر، وإلا فستأتيك التغذية المرتجعة/ الراجعة على نحوٍ لن يرضيك.

قدِّم رسالتك للآخرين بجلاء ووضوح، اجعلها كالشمس في رابعة النهار، والأمر ليس وليد اللحظة، بل قديم قِدم الإنسان على الأرض، والرسالة المشوشة ينجم عنها تواصل غير مثمر؛ فقد سأل بعضهم ابنًا لسهيل بن عمرو: أين أَمُّكَ؟ (أين تذهب؟)؛ فظنها الولد (أُمُّكَ) وأجاب: ذهبت تشتري دقيقًا؛ فقال سهيل: أساء سمعًا فأساء جابةً! فأرسلها مثلًا، ويطلق على كل من فهم غير المراد من السؤال أو الحديث.

وفي هذا المثل يقال (جابة) ولا يقال (إجابة) كما عند الأصمعي وأبي عبيد معمر بن المثنى وابن قتيبة وابن فارس والأزهري والزبيدي، وأجمعوا أن العوام تهمز (جابة) وهذا من اللحن، بينما الصحيح (جابة) وهو اسم يقوم مقام المصدر.