إلى "داني بيكر"... هاتوا الدفاتر

إلى "داني بيكر"... هاتوا الدفاتر

14 مايو 2019
+ الخط -
في عالم الخطابة، يُنصح ألا تبدأ حديثك بطرفة؛ فلربما تكون سمجةً فتصرف الجمهور عن متابعتك، والطرفة السمجة غير مقبولة في مختلف الثقافات تقريبًا، لاسيما إذا كان المجتمع يمتلك درجات مقبولة إلى عالية من الذوق السليم. ومع أن الأمر ليس جديدًا، إلا أن النَّاس سريعة النسيان، والتكرار وسيلة تاريخية لتعليم بني البشر ولو بإيلامهم وتنغيص حياتهم!

وهذا درس يتكرر -ربما- للمرة الألف، ويتكرر الدرس هذه المرة من لندن، ولعلَّ المرء يأخذ على نفسه سيلًا من العهود، ويجزم أنه استوعب الدرس وأحاط بملابساته، لكن البون شاسع بين التنظير والواقع. لم يأت الدرس من الشارع ولا من المدرسة أو الجامعة، بل من هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، وتحديدًا مذيع "بي بي سي" الخامسة "داني بيكر".

نشر بيكر تغريدة على تويتر، وكان من توابع تلك التغريدة أن أطيح به، وفقد عمله بسبب تصرف أرعن؛ أتدري ماذا فعل الأخ بيكر؟ وعلى فرض أنك تعلم؛ فلا بأس من التكرار، فهو وسيلة تاريخية للتعليم وتثبيت المعلومة، كما أشرنا آنفًا. نشر بيكر صورة للمولود الجديد لدوق ساسيكس الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل، وكانت التغريدة لصورة تجمع الزوجين معًا، وبينهما قرد يرتدي ملابس، ومصحوبة بجملة (الطفل الملكي يغادر المستشفى)..


نكتة في غاية "البواخة والرخامة"، وتجرَّد فيها بيكر (61 عامًا) من الحس السليم، وأفاق من غيبوبته على فصله من عمله؛ ليحذف التغريدة ويصرِّح لاحقًا أن هذا اليوم "أحد أسوأ أيام حياته"، وبالرغم من إزالة التغريدة من مواقع التواصل الاجتماعي، ستبقى مرارتها في حلق بيكر إلى أن يُوارَى التراب.

قالت العرب: "إيَّاكَ وما يُعْتَذَرُ منه"، لكن بيكر أخطأ ثم اعتذر بعد خراب مالطا، ولم يتناقل الناس تغريدته للضحك، بل للإجهاز على مسيرته الإعلامية، وكما يقال "غلطة الشاطر بألف"؛ فإن غلطة الإعلامي كذلك. وواصل بيكر اعتذاراته دون جدوى، حتى أنه عبَّ عُبَابُه ليتجنب وبال أمره؛ فلم يجنِ سوى الحسرة والندم.

وأرى بيكر قد ندم ندامة الكُسعي، وأهيب بك ألا تقع في الفخ، وأن تلتزم الخيدب (الطريق الواضح)، وهو أن تتعلم من خطأ بيكر وأمثاله. لن أحدثك الآن عن أبي الطيب المتنبي وطائفة أخرى من أكابر الشعراء، ولن أمرَّ بك في عالم المتصوفة والزنادقة ممن قتلتهم –إن صح التعبير- تصريحاتهم الصحافية يومها، وليس هذا مقام الحديث عن الحلاج والسهروردي وابن الرواندي، لكنني أركز معك الآن على أهل الإعلام.

لا أجد مبررًا لتغريدة بيكر، ولو أنه تقمص دور دونالد ترامب؛ فإن المقام مختلف وإن جمعهما ميدان تويتر! وعلى ذكر ترامب؛ فإنه يجدر بنا التعريج على ضحية أخرى، وللحظ النكد فهي إعلامية، وأقول النكد لأن الإعلامي أذكى من أن ينزلق في مثل هذه الترهات، ولكن لكلِّ جوادٍ كبوة، والسعيد من اتعظ بغيره.

وبينما استخدم بيكر صورة قميئة للاحتفال بطفل (حتى وإن لم يكن ملكيًا)، وعلَّق عليها بكلماتٍ تنفي عنه الخطأ غير المتعمد؛ فقبل عامين، أنهت شبكة "سي.إن.إن" الإخبارية الأميركية عقدها مع الإعلامية والممثلة الكوميدية، كاثي غريفين، بعد ظهورها في الاحتفالات السنوية بشكلٍ مزعج ومنفِّر.

ظهرت غريفين في مجموعة صور لصالح موقع "تي إم زد" لأخبار المشاهير، حاملةً دمية (مجسم) لرأس ترامب مقطوعًا وملطَّخًا بمادة حمراء تشبه الدم. لم يضحك الأميركيون عندما رأوا الصورة، وعوضًا عن ذلك صُدموا وارتأوا فيها تجاوزًا لأخلاقيات المهنة الإعلامية، واتهمها نشطاء على مواقع التواصل بالتحريض على العنف، وطالبوا بمعاقبة فورية ورادعة.

سرعان ما استعمل ترامب سلاحه الأول، وعبَّر عن انزعاجه بتغريدة قال فيها "إن على غريفين أن تخجل من نفسها"، وأضاف أن أصغر أبنائه ويدعى بيرن مستاء من الصورة ويعاني جراء الصورة المقزِّزة. حملت وسائل الإعلام بخيلها ورجلها على غريفين، وقدمت غريفين اعتذارها، لكنه جاء كإيمان فرعون في البحر إبان غرقه؛ فلم ينجدهما أحد.

بينما تشاهد مصير داني بيكر -ومن قبله كاثي غرفين- ربما تقسم أنك لن تفعل مثل تلك الحماقات "ما بلَّ بحرٌ صوفة"، لكن التجربة هي المحك وعليها التعويل، واذكر قولتهم (إيَّاكَ وما يُعتذر منه).