سندريلا الحميات

سندريلا الحميات

12 مايو 2019
+ الخط -
تحتل العلاقات الإنسانية قدرًا لا بأس به في كل مكان؛ فالنَّاس لا يجمِّدون عواطفهم، وإن كان بعضهم يحاول إخفاءها، وهيهات فالصبّ تفضحه عيناه.

لمحت مديرة مستشفى الحميات بإحدى الطبيبات شيئًا لم تسترح له، كانت تنقم عليها حضورها الطاغي وحب النَّاس لها، نوع من الكاريزما لم يتوفر للمديرة، وألهب صدرها ما سمعته من طاقم التمريض وتهامسهم.

كانوا ينقلون إليها نظرات إعجاب الأطبّاء بالحسناء الصغيرة، ولا ترى مبررًا لهذا الإعجاب على الإطلاق، كما أنها لا تجد فيها الطبيب الحريص على أداء واجباته تجاه مديره؛ فخلعت عليها تهكمًا لقب "سندريلا الحميات"، ودار اللقب على ألسن حاشية المديرة، وكثر الغمز واللمز مع كل حركة أو سكنة.


لم تعرف الحسناء عن ذلك شيئًا، كانت في عالمها الخاص، ولا تنتبه لما يدور حولها، أو ربما تتعامى عنه. وبعد مدة وقعت في الحب، لم يكن الحب الأول في حياتها؛ فقد أحبت في سنوات الجامعة، وللمفارقة فقد كان متزوجًا وانفصل عن زوجته، لكنها أحبته أو توهمت ذلك.

ومن يومها، وقلبها بين حب جديد وحب قديم، لا تتوقف عن الحب، لكنه حب عذري لا يعرف التجاوز، وكانت تحسن الحفاظ على شرفها وسمعة أهلها. ويحدث أن تجمعها النوبتجية بأحدهم، وترى من معسول كلامه أنه فارس أحلامها المرتقب، وتبدأ رحلة الحديث الهاتفي ساعة بأكملها كل يوم؛ فإذا سئلت عن الرغي في الموبايل، تحججت بالحديث إلى عمها أو خالها أو أيٍّ من الأهل والأصدقاء والأقارب.

ومرّ عام بطوله، وهي تتوهم أن حبَّها قد أطبق على أنفاس زميلها، لكنه كان يتسلى بها لا أكثر ولا أقل؛ فقد جاء من الصعيد الجواني لا أنيس له في المحروسة، ولا بد من تزجية الفراغ، وكانت السندريلا أنسب من يؤدي هذه المهمة.

ترك المستشفى وانتقل إلى آخر، وتعرف إلى زميلة أخرى، ولم يقلع عن سيرته الأولى؛ فالتسلية مباحة ولا سيما إن قبِل الطرف الآخر، ودون مقدمات شعر بأنه لن يتمكن من مواصلة اللعبة؛ فالزميلة الجديدة ابنة طبيب معروف، وقد يضحك له الحظ إن ارتبط بها؛ فلم يتردد في الزواج منها، وتكفل والدها بحياة لم يحلم بها الوصولي الصغير.

كان أحدهم يعشق السندريلا، ويدرك كل ما يجري، ويحرص على شعورها فلم يصارحها بما يجرح شعورها، بينما ظنت أنه لا يعلم شيئًا بالمرة، ومع أنه كثيرًا ما يلمِّح لها، لكنها تحيل الأمر على الصدف المحضة؛ فاكتفى بالمشاهدة وقد زهد فيها.

يبدو أن حبه لها كان صادقًا، وإن كانت أصيبت بصدمة عنيفة؛ فلم تتخيل أن تُترك بهذه السهولة، ولم تفطن إلى أن معسول الكلام لا يشيد حياة جادّة. وتمرّ السنون، وتعمل في مكان جديد، وإن كان لقب السندريلا يلازمها، وربما يجرح كبرياءها ولو من طرفٍ خفي. تتعرف إلى طبيب آخر، طبيب يكبر والدها عمرًا، وتضيفه على فيسبوك، ويمطرها العجوز اهتمامًا، ويضع بين مهامه ألا يترك منشورًا (بوست) لها إلا وذيّله بإعجاب ممهور بتعليق.

لم يكن الأمر عاديًا، وأبلغ دليل أن زوجته دخلت على الخط، وقد شعرت بفطرتها أن العجوز يتصابى، ويُكثر نشر صوره على غير عادته على مواقع التواصل، والحسناء تتفاعل كغيرها بحسن نية، والعجوز يتوهم أنها وقعت في دباديبه!

وذات صباح، استيقظ العجوز على خبر أقضَّ مضجعه؛ فقد رمته السندريلا بسهم (البلوك المتين)، وتقطعت نفسه حسراتٍ على حبهما! وتقاطرت دمعاته الثخينة، ولم يتمالك أعصابه على ارتفاع سنّه، وكتب نعيًا لحبه المغدور وقلبه المفطور استخدم فيه الأحرف الأولى من اسمها.

وغابت السندريلا بين دموعها؛ فأول حبها كان لأرمل، ومن بعده عرفت كثيرين خذلوها، ثم جاء من يصغرها بخمسة أشهر وتركها، وبعد سنوات يشتهيها عجوز متهالك يخطو نحو قبره. لم تفقد حذاءها ليبحث عنها سعيد الحظ، وأرسلت تنهيدة طويلة حارّة محدثةً نفسها مستغربةً ساخطة: ما هذا الحظ النكد؟! وتمضي في طريقها إلى المجهول وحيدة.