تلفون لِقَصّ ألواح الصابون

تلفون لِقَصّ ألواح الصابون

01 مايو 2019
+ الخط -
بدأت إحدى جلسات "الإمتاع المؤانسة" في منزل الأستاذ كمال بمدينة الريحانية التركية على نحو سيئ، إذ أمسك كل واحد من الحاضرين موبايله وراح يقلب فيه، يكتب، أو يستقبل رسالة، أو يتحدث، أو يستمع إلى تسجيلات صوتية واردة إلى حسابه في الواتساب..

فجأة وقف العم أبو محمد واتجه نحو الباب وهو يقول:
- السهرة معكُنْ خسارة. وأنا ماني عرفان إنتوا ليش بتجوا ع السهرة. إذا الواحد حط جوالو في البيت وسهر معو ما بيكون أحسن ما يجي ويقعد بين الناس؟

وقف أبو الجود وقال: طول بالك يا عمي أبو محمد، وكل شي راح يكون على كيفك.
وحمل سلة كبيرة وشرع يمر علينا واحداً واحداً ويأخذ منا أجهزة الهاتف ويلقيها في جوف السلة، ثم حملها وخرج من الغرفة، وعاد بعد قليل وقال: هلق بقى منعرف كيف نسهر ونحكي ونتسلى. ويا ريت يا أستاذ كمال توصي عيالك إنن يساووا لنا عشا بيلعب عليه الخيال، منشان يكتمل سرورنا.

قال الأستاذ كمال ممازحاً: لو جَوَّالي معي كنت ببعت لمرتي (إس إم إس) بتعمل لنا عشا. هلق كيف بدي أبعتلا خبر؟
وغمز لابنه بعينه لكي ينفذ الطلب. وقال لنا: بتعرفوا؟ على زماننا كانت الحياة صعبة بسبب قلة وسائل الاتصال، ولكنها بنفس الوقت حلوة، وبسيطة.


قلت: بصراحة؟ كلام الأستاذ كمال فتح شهيتي ع الحكي. يا شباب، من زمان
في أوائل الستينات، ما كان في ببلدتي "معرتمصرين" غير تلفون للعموم، وشي عشر تلفونات في البيوت موصولة كلها عبر مقسم مركزي كانوا يسموه الصنطرال المشتقة من الكلمة الإنكليزية (Central)، وللعلم التلفونات اللي في البيوت العشرة إذا حبوا يحكوا مع بعضهم لازم يكون عبر الصنطرال، والعامل المناوب بإمكانو يسمع الحديث كلمة كلمة وحرف حرف، لذلك نادراً ما كان حدا يحكي مع حدا بالتلفون، نحن في بيتنا مثلاً، كان في تلفون، وكانت أمي كل فترة تنفض عنه الغبرة وترجعه لمحله عَ الرف. والرف كان معلق ع الحيط بشكل أفقي، وتحته في ذراع على شكل مائل حتى يسنده. وكان أبي رحمه الله ينزعجْ من الذهاب بشكل أسبوعي إلى حمام السوق، فبنى في الغرفة الكبيرة التي نجلس فيها بشكل دائم حَمَّامْ منزلي، وكنا نستعمل في الحمام صابون الغار الحلبي الأصلي. ولأن لوح الصابون كبير كنا بحاجة لأن نقسمه نصفين.. والدتي تحايلت ع الأمر، وربطت شريطْ معدني في مَسْنَدْ رف التلفون، وصرنا نحط اللوح الكبير بوسط الشريط المعدني، ونشده حتى ينقسم لقسمين متساويين، ونْدَخّلْ معنا ع الحَمَّام نص لوح، ونحتفظ بالنص التاني لحَمَّامْ قادم. بتعرف يا عمي أبو محمد أشو العبرة من هالقصة؟

قال أبو محمد: حتى لو ما كان فيها عبرة، إنت هلق عم ترجعني بذاكرتي أربعين سنة لورا. قل لي بقى، أشو العبرة؟

قلت: صدقوا أولا تصدقوا أن نحن كنا نستعمل الشريط المعدني المعلق بالتلفون أكتر من استعمالنا للتلفون نفسه! وأنا ما بنسى المرة الوحيدة اللي رن فيها التلفون سنة 1963، وكان أبوي موجودْ في البيت. وطبعاً، لما بيكون هو موجود ما حدا غيرو بيحقلُّو يرد. قام عن المقعد الطويل اللي كنا نسميه (الكَرَويتْ)، ورفع السماعة. وقال: ألو نعم. أهلين أستاذ أبو فاروق. الله يبشرك بالخير. شكراً كتير. أكيد بدي أمر عليك. أنت في البال دائماً.
وسكر الخط، وما قال شي. وكانت الوحيدة اللي تسترجي تسألو أشو صاير بهيك حالة هي والدتي.

أبو فاروق هو الأستاذ مصطفى العم مدير المدرسة الابتدائية. قالت أمي لأبوي: خير؟ أشو بدو أبو فاروق؟
فقال لها: ما في شي مهم، هادا "محمد" نجحان في السرتفيكا وطالع الأول ع المدرسة.
قال أبو جهاد: على علمي عيلتكن ما فيا واحد اسمو محمد. مين بيقصد؟
قلت: أنا اسمي مركب (محمد خطيب). وفي البيت كانوا يعرفوني باسم محمد.

وللحديث صلة

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...