أصبح في قريتي مدرسة

أصبح في قريتي مدرسة

09 ابريل 2019
+ الخط -
من الحب والبساطة أتيتُ، من تلك القرى الواقعة في أعالي الجبالِ البعيدة، المهمشة والمنسية أيضًا، من حيث اللا شيء حيث العدم جاء حلمي، حلمٌ كان يراودني بات اليوم حقيقة، مثل حقيقة الوجود، وحقيقة بساطة الوجوه تلك التي أنتمي إليها، كل حلم يبدأ بفكرة، وما أعظم هذه الفكرة حين تكون لصالح الإنسان، لا سيما الإنسان البسيط الإنسان القروي المحروم من كل شيء.

كنا نحلم بوجود مدرسة قريبة من المنزل أو على الأقل قريبة من القرية نوعًا ما، لا نخشى المسافات، وكحلم أي طفل ممزوجا ببراءته كنا نتمنّى زوال تلك المسافة، ولطالما كانت مسافة الطريق إلى المدرسة عائقا أمامي مثلما هي عائق أمام أحلام كثر من الأطفال، كنا نعتقد أنها مجرد أحلام لم نكن نعلم أنها حق من حقوقنا، كنا أطفالاً آنذاك، لذا كنا نجهل حقيقة التهميش الممارس ضدنا من قبل النظام السياسي المعادي للتعليم، لم نكن نعلم أننا وجدنا في المكان الخطأ، ذنبنا الوحيد أننا أبناء قرى، وككل أبناء قرى هذا الوطن فهم محرومون من حقهم بالعيش، فضلًا عن حقهم بالتعليم أو الصحة أو أي شيءٍ آخر، عامل الجغرافيا مهم جدًا في تحديد هويتنا وما نريدهُ بالضبط.

منذ عشرات الأعوام كانت تتم عرقلة بناء المدرسة، وتحت كثير من المبررات الواهية كان حلمنا يقتل كل يوم، لم تبن لنا الحكومة المدرسة التي كنا بأمس الحاجة إليها ولم نستطع التغلب على تلك المسافة التي كانت تقهرنا دومًا.


ذات يوم تأخرت على المدرسة حوالي ربع ساعة، طردني مدير المدرسة أنا والكثير من الأطفال، كان صامدا وحازما في قراره كأي رجلٍ قروي لا يخشى طول المسافات ولا تعيقه وعورة الطريق، ولا يخشى من المنحدرات، وكنت ككل أطفال القرى البعيدة ذليلاً عبوساً، يخاف من كل الوجوه الغريبة التي يصادفها في الطرقات، يخاف المنحدرات، وتعيقه الطرق الملتوية ووعورتها، وهذه الحالة طبيعة لدى أي طفل، لكننا كنا لا نجد من يفهم شعورنا ذاك، لم أشعر وقتها بالذنب لأنني تأخرت بل شعرت بالظلم كوني لم أجد أحدًا يفهم مدى الصعاب التي تعرضت لها في أثناء طريقي.

اليوم وبعد الوصول إلى حالة اليأس، والتهميش الممنهج، اتفق أبناء القرية على بناء مدرسة، وما أجمل أن نبني نحن صرحًا علميًا كبناء مدرسة، وأن ننسى كل وعود الحكومة الزائفة، أن نضع أول حجر لبناء مدرسة، كأننا نبني مجتمعاً متعلماً كان يعيش في القرون الحجرية مع أنه موجود في هذا الزمن، كأننا نتحدّى الحرب وكل لعنات العنف، كأننا نخرج من عتمة الظلام إلى واجهة النور ولأول مرة نشعر بالوجود.

بدأ الحلم بمجرد فكرة ثم تجمعت أيادي أهل القرية، فجاء كل منهم بما يقدر، البعض وفر المال والآخر الزاد، والأطفال أعطوا ما يملكونه من مبالغ بسيطة جدًا كانوا يحتفظون بها من أجل شراء قطع الشوكولاتة الرخيصة. تجمعت السواعد في صفٍ واحد، وبدأ صف الأحجار إلى جانب بعضها.

بدأت شمس المعرفة في قريتي الصغيرة تشرق، ولأول مرة بدت سعادة الأطفال حقيقة، وليست مزيفة كتلك التي كنا نتصنعها.

بدأنا نعي أن الشعوب لا تقاس بمدى قوتها وإنما بمدى تعليمها، وأن العلم وحده من يصنع السلام، وأن العلم وحده من ينشر الحب، وأن الصعاب كلها تزول حين تبدأ همة الرجال، كما زالت كل الصعاب أمام همة أبناء قريتي.

وها نحن بعد أن خذلتنا الحكومات المتعاقبة وهدمت أحلامنا النخب السياسية وحاولت حرمننا من أبسط حقوقنا، التعليم على سبيل المثال، أبت قرنا الصغيرة إلا أن تتحدى الواقع وظروفه والماضي وسيئاته وأن تتكاتف لبناء مدرسة على نفقة الأهالي والطلاب الصغار والنساء، مشكلين بذلك أيها صورة عن التلاحم الأخوي الذي فتح الأفق أمام أطفالنا التواقين للتعليم، لبناء مدرسة تحتضن أحلامهم وتكون بداية انطلاقتهم.

إذ إن هذه المدرسة بنيت على نفقة الأهالي، بإمكاناتهم البسيطة ودوافعهم العظيمة لبناء أجيال متسلحة بالعلم والوعي وقادرة على مواكبة العالم.

وكما يقول العالم بنجامين فرانكلين: "إن الشيء الوحيد الأكثر كلفة من التعليم هو الجهل"، وبعد أن قرأت مقولته هذه وجدتني أشاهدها في دوافع وهمة وعزيمة الأهالي الذين بادروا لإنشاء المدرسة.

F12E3969-BB29-4353-BC93-620733096278
مبارك اليوسفي

صحافي يمني يكتب للإنسان ومن أجل الإنسان، بعيدا عن التعصب ولغة العنف.

مدونات أخرى