"الكحيت" ينصح!

"الكحيت" ينصح!

07 ابريل 2019
+ الخط -
"الكحيت" هو أحد أشهر شخصيات رسام الكاريكاتير مصطفى حسين، يمثل الكحيت طبقة الفقر المدقع التي تتغافل عن واقعها المر وتبدي رأيها في اقتصاد وقوانين ولا تعترف بهزيمتها النفس اجتماعية التي يعبر عنها ثوبها الرث وحذاؤها الممزق.

صار الكحيت رمزاً لكل من يهرب من فشله فيتقمص دور الفاهم الخبير. أخيرا في مصر، ظهر الكحيت السياسي الذي أضاع ثورته مع سبق الإصرار، يجلس على مقعده المجاني على مواقع التواصل الاجتماعي، واضعاً رجلاً فوق أخرى، يطل إصبع قدمه العاري من ثقب جوربه، ينفخ دخان سيجاره المستعار أو يفرك أسنانه بسواكه على مهل؛ وبحروف تملؤها الثقة يصرخ محذراً الجزائر أن تلقى ثورتها مصير ثورته، متجاهلاً خطيئته، وملطخاً تاريخ غيره، ومعتمداً على مبدأين أساسيين هما: أن للناس ذاكرة ذبابية، وأن "الزن على الودان أمر من السحر".

مع بداية تظاهرات السودان، ومنذ تحول مثيلاتها إلى ثورة في الجزائر، والمصريون لا يفترون عن نصح أهلنا هنا وهناك خوفاً عليهم من أن يلقوا المصير نفسه، وهذا بالتأكيد أمر يحسب لهم؛ ولكن ما يحسب عليهم هو أنهم حتى الآن لم يفهموا أسباب فشلهم، حتى اليوم ما زالوا يرددون الإسطوانات المشروخة نفسها، حتى هذه الساعة ما زالوا يشيطنون فريقا واحدا وينصبونه حائط رجم عند كل مناسبة، بل بدون مناسبة.

يحذر المصريون الجزائريين من العسكر، متناسين أن الجزائر سبقتهم ثورياً بسنين ضوئية.. انتفض شباب الجزائر في أكتوبر/تشرين الأول 1988، فمثل ذلك أحد بدايات الربيع العربي، فأجبروا الرئيس وحزبه على إجراء تعديلات سياسية ودستورية سمحت بحرية وتعددية حزبية لأول مرة منذ الاستقلال عن المحتل الفرنسي.


التزم الرئيس الجزائري (الشاذلي) بالديمقراطية، وحقق التيار الإسلامي فوزاً قوياً في الانتخابات البلدية المحلية، فأجل الجيش الانتخابات التشريعية إلى أن اضطر لعقدها ففازت جبهة الإنقاذ الإسلامية لتشكل اكتساحاً غير متوقع في أول انتخابات حرة نزيهة في تاريخ الجزائر، الأمر الذي عجل بالانقلاب العسكري بقيادة وزير الدفاع خالد نزار ومجلسه السري لقطع الطريق على وصول الجبهة لمقاليد الحكم.

لم يقبل الإسلاميون هذا القرار واعتبروه قضاءً على استحقاقاتهم التي نالوها بالديمقراطية، وكانت جبهة الإنقاذ تميل إلى التعايش واستثمار الواقع وترى العمل العسكري خطرا شديدا، ونفت الجبهة علاقتها بالتنظيمات المسلحة التي تبنت أعمال عنف نظرا لوجود جميع القيادات بالسجون، وبمرور الوقت ظهرت شهادات على توغل أجهزة الأمن والمخابرات في تكوين تلك التنظيمات لخلط الأوراق وتحقيق مكاسب عبر حرب قذرة عرفت في ما بعد بالعشرية السوداء.

بعد كل ذلك، ترى من يحذر من؟!
تابعت نسخاً مصرية من شخصية الكحيت السياسي خلال الأيام الماضية، فوجدت الكحيت العلماني يحذر أهل الجزائر من خديعة عسكر هم أعلم بها، ولم ينس أن يساوي بين حكم العسكر لعقود وبين عام حكم فيه رئيس من فصيل إسلامي!

يتحدث الكحيت عن الرئيس كجماعة أو عن الجماعة كرئيس برغم أنه لم يثبت ولو بتسجيل واحد تلقي الرئيس المنتخب أي اتصال يأتمر فيه بأمر جماعته طوال عام حكمه! بالرغم من أن محمد مرسي جاء عبر انتخابات ديمقراطية نزيهة، وأن فصيله لم يتجاوز في المجالس التشريعية نسبة الـ35%، وأنه لم يختر من جماعته سوى ثلاثة وزراء ومحافظين من أصل 33 وزيرا، و25 محافظاً.

يحذر الكحيت العلماني من فاشية إخوانية وأخرى دينية لم يستدل عليها في عصر الرئيس الشرعي بقرار واحد! ويحذر من تآمر الإخوان مع العسكر، وهو من التقط مع رئيس مخابراته صورا تذكارية باسماً ومحيياً؛ يستدل بمواقف سياسية لخصومه يجوز فيها الخطأ والصواب، ويتندر بسذاجتهم، وهو من استدعى الجيش وغرته الأماني فركب دبابته ليدهس ثورة يناير ويقدمها قرباناً فادحاً للقضاء على خصمه التقليدي، رافعاً شعار "نار العسكر ولا جنة الإخوان"؛ يدافع بحماس زائف عن معتقلين ومختطفين قسرياً هو سبب في ما آل إليه حالهم؛ يستثمر غليان مرجل غضب الناس الذي كان وقوده أجساد ضحايا رأى يوماً أن حرقها واجب وطني، والعجيب أنه يشيطن الفصيل ذاته الذي ينتمي إليه المعذبون بل ويلصق به نتائج قبوله تفويض سفاح أتى به ليخرج هو من القضية مثلما يقولون "كالشعرة من العجين".

وعلى صعيد آخر، يبهرنا الكحيت الإسلامي، وهو يحذر الجزائر من أخطاء الإخوان، يشترك الإسلامي مع العلماني والدولجي والأجنبي في وصم الإخوان بالسذاجة وبالخيانة، والغريب أنهم حتى لا يتساءلون عن سر هذا التوافق الفكري المرعب؛ إلا أن الإسلامي يضيف لمسته فيجعلهم مضيعين للدين، متآمرين مع أعدائه، ويجتر الدلائل والبراهين من القرآن والسنة ليثبت أنهم فتنوا الناس، وأن تعصبهم لجماعتهم يفوق تعصبهم لدينهم، وأن الانقلاب من سنن الله الكونية، فهو نتيجة طبيعية لعدم جديتهم في تطبيق الشريعة.

باختصار.. يقوم الإسلامي بشرعنة ما قام به العلماني، وربما يفسر ذلك اتفاقه معه على العودة لمربع يناير في زي التعقل والرضا بالأمر الواقع والسير معه في ركب اصطفاف على جثة الديمقراطية، وتشييع الاستحقاقات الانتخابية لمثواها الأخير، فالطرفان لا يريدان إخوانا مهما كان الثمن.

يتهم الإسلامي الإخوان بالضعف، في حين أن معظم الأخطاء التي وقعت فيها الجماعة كانت بسبب شحن الجماعات الإسلامية للشارع ضدهم، فالرئيس الإسلامي لا بد أن يحارب مع سورية، ولا بد أن يقاتل الصهاينة ليحرر فلسطين، وهو ممنوع من أن يسمح بعلاقات مع إيران حتى لا يحدث مد شيعي، وعليه أن يلغي الربا من البنوك، وأن يأمر أميركا بتحرير الشيخ عمر عبد الرحمن، وأن يجد حلا للضباط الملتحين، وأن يضرب بيد من حديد ويقتلع شرطة وجيشا وقضاءً دون ظهير عسكري أو شعبي، وأن يسمع كلام بطل أسطوري يقبع الآن كمثله في غياهب السجن.. كان الكحيت الإسلامي خنجرا مسموما في ظهر أول رئيس ذي خلفية إسلامية قبل أي فصيل آخر.

ألم يأن لكحيت مصر السياسي قبل أن يعيش دور المعلم أن يعي أنه هو من تآمر على نفسه واستبدل حلماً وردياً بكابوس يعلم الله وحده هل سنفيق منه أم سنختنق بداخله؟
7048540C-B765-4399-A999-CB7869F215E2
رانيا مصطفى
باحثة مهتمة بالتاريخ والسياسة والأدب والعلوم الإنسانية. تقول: كل فكرة فى مقال ماهى إلا رسالة فى زجاجة ملقاة فى بحر تتقاذفها أمواج الأيام حتى تصل إلى من يهمه الأمر