زبائن الرقية الشرعية وزبائن الجابري والعروي

زبائن الرقية الشرعية وزبائن الجابري والعروي

07 ابريل 2019
+ الخط -
"يريد محمد عبده دفع المجتمع إلى أن ينهض ويغير ما بنفسه فيعطي الدليل على كذب دعوى الأجنبي في حق الإسلام".. العروي، عبد الله، مفهوم العقل، ص 45.

تنطوي هذه المقولة على فكرة أن المثقف هو جزء من الكل ولا يتحمل مسؤولية التغيير، بل ينبه إلى مكمن الخلل، إنه يشخص المرض بلغة الطب، في حين أن الإصلاح هو جماعي، يتعلق بتضافر إرادة كافة الأفراد أو أغلبهم على الأقل، إنه اتحاد الإرادات على العمل والفعل بهدف مغالبة الفشل وتغيير الواقع.

وحتى من داخل المنظومة الدينية فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كذلك لا يستطيع كاتب أو مشروع فكري مهما بلغ من الدقة والإجرائية أن يصلح مجتمعاً ما إلا إذا نهض كل فرد ليصلح ما بنفسه.

صحيح أن المثقف والكتابة وباقي الفنون التعبيرية قد تلعب دور المحرك والحافز والدافع إلى التغيير، كما أنها قد تلعب دوراً محافظاً انتكاسياً، لكن السؤال هنا يتعلق بهوية مختلف الأشكال التعبيرية الثقافية وجدلية الذاتي والموضوعي من داخلها؟ وأدوار المثقف والتعبيرات الرمزية المختلفة وموقعها الاستراتيجي من الواقع والمستقبل؟


غالباً ما يقال إن رونيه ديكارت الفيلسوف الفرنسي أحدث ثورة انقلابية في تاريخ الفكر الإنساني بمعية فلاسفة آخرين، الأمر الذي أمّن لأوروبا تفوقها على جميع شعوب الأرض خلال زمن معين.. هل يعني هذا أن ديكارت أحدث ثورة انقلابية بفرنسا وأوروبا؟

هذا الأمر صحيح في حدود ما هو نظري، بحيث لا أحد يملك عصا سحرية، لكن ديكارت عمل على وضع الأسس ووضحها وكشف السر وشرح الوصفة التي تجعل الناس يخرجون من حالة الوصاية وفكر القطيع إلى "أنا أفكر".

لكن هذا الترياق يحتاج إلى الأيدي التي تأخذه وتتناوله بنفسها، مقبلة راغبة لا مقاومة، وإلا امتنع الجسم عن التداوي أو جاء التداوي قليلاً وضعيفاً، فالاستعداد لتقبل الدواء شرط التداوي، هكذا هو المجتمع، تبقى المشاريع الفكرية قابعة بالرفوف ومكسوة بالغبار وحبراً على ورق ودون جدوى، ما لم تجد البيئة الحاضنة واليد الممتدة والمتعطشة للدواء، وهذا هو واقع أغلب البلدان التي تعاني التخلف والجهل.. هناك وصفات مهمة ومشاريع فكرية قوية، لكن الناس لا يقبلون على هذه الوصفات العلمية، بحيث تتوالى المشاريع الفكرية دون أن يشكل ذلك أي أثر على أرض الواقع.

إن أصحاب الشعوذة الذين يطلقون على أنفسهم أصحاب "الطب البديل" وتجار بول البعير، عليهم إقبال أكثر من الأطباء خريجي الجامعات والمعاهد، كذلك زبائن الرقية الشرعية أكثر بكثير من زبائن محمد عابد الجابري أو عبد الله العروي، والمقبلون على السحر والشعوذة، والفقهاء المتاجرون والمستثمرون في النفوس المنكسرة وخوارق الجن ولسان الضبع أكثر بكثير من المؤمنين بالعلم والعقل.

لا نملك إحصائيات دقيقة، لكن البقر تشابه علينا وهذا يُنذر بالخراب وربما نفسه الإنذار القديم الذي أطلقه ابن خلدون وما زال صداه إلى اليوم، بعد الخيبات المتوالية التي تجنيها الشعوب العربية والإسلامية منذ نهضتها على بنادق الاستعمار إلى اليوم.

كتب ابن خلدون: "وكأنّي بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنّما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدّلت الأحوال جملة فكأنّما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم بأسره وكأنّه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث".

لكن دائماً ما كان الصدى يرد على الصدى فكتب محمود درويش قائلاً للهوية: شكراً. ونظم شعراً يقول: "إن صرخت بكل قواك، ورد عليك الصدى "مَنْ هناك؟" فقل للهويّة: شكراً!".

إمانويل كانط الفيلسوف الألماني عندما كتب مقالته الشهيرة "ما التنوير؟" صرح قائلاً ما مفاده: "إن التنوير يقتضي تحرك كل شخص، ويتجرأ على استخدام عقله بنفسه ويخرج من حالة القصور الذي هو وحده المسؤول عنها".

هكذا تم وضع الأسس لبناء عقلية جديدة قائمة على الحرية والنقد، ومراجعة الإنسان لذاته بشكل مستمر، لكن ما حصل بالضفة الأخرى من العالم الذي ذكرنا بعض أعلامه في مرحلة تاريخية معينة هو غير ما يحدث عندنا في هذا الجزء من الأرض، رغم توالي المشاريع الفكرية والكتابات، لكن بعيداً عن الفاعلين في مجال الإصلاح والتغيير والمشاريع الفكرية، فإنه لا أحد انتبه، ولو من المنتقدين للمثقف والمجتمع المدني، لأن الإصلاح إرادة أفراد واستعداد ذاتي، وقرار كل كينونة ونهوض جماعي، كل من جهته لتناول واستهلاك وتصويب ما تم إنتاجه من وصفات فكرية علاجية، وطلب المزيد.

لكن الإنسان عندنا في هذا الجزء من العالم اعتاد الأمل، الذي يبقى في مستوى التمنيات وسلم أمور العالم لقوى غيبية تشذ عن إرادته، هذا الأمر لا يمكن فهمه إلا بفهم السيرورة التاريخية للمجتمعات العربية وما تركته الهزائم المتوالية على الحالة النفسية للعربي، المسلم.. وهذا ما دفع بالعروي إلى النداء بتطبيق "علم النفسانيات" لفهم سيكولوجية هذا الإنسان الذي لم يعد يأخذ بالمبادرة ولم يعد يحلم، ولكن حتى علم النفسانيات لا يغير ما بالإنسان ولكن يمكنه من ميكانيزمات تغيير ذاته، بعد تشخيص المرض وتحليل العلبة السوداء، لكن الحل هو بقرار الفرد نفسه.

هكذا بعد مسيرتنا وتحرر البلدان العربية الإسلامية من الاستعمار وبروز مشاريع فكرية متعددة، وبروز ثورات عربية أطاحت أنظمة سياسية استمرت جاثمة فوق إرادات شعوبها، لكن ما نطالعه في الصحف وكل ما يخرج علينا يوميا عبر الواقع والافتراضي ينقل لنا مؤشرات قوية لخيبات أمل متوالية، وكأن المجتمعات العربية تسير عكس ما يريد لها المستقبل!

لقد كتب سعد الله ونوس المسرحي السوري مقالة بعنوان: "إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ".. ولكن الأمل بطبعه سلبي كما قال أرسنت بلوك في كتابه "مبدأ الأمل" لكن في الإرادة عمل ونشاط.. لهذا ما نحتاجه هو الانتقال من القول والأمل إلى الإرادة والفعل.