في الطريق إلى تركيا

في الطريق إلى تركيا

03 ابريل 2019
+ الخط -
محاولاتها الجادّة كانت جديرة بالاحترام، وهي تهمّ في السفر إلى تركيا متنقلةً من مدينة إلى أخرى للقاء بأهلها المعوزين الذين شرّدتهم الحرب السورية الضروس، التي جعلت لديها رغبة ملحّة في الذهاب إليهم واللقاء بهم بعد غياب استمرَّ لأكثر من خمس سنوات.

وإن ظلّت الصورة ضبابية، في لقاء أخيها الوحيد وأخواتها الخمس وأبنائهن، وتغيير ما يمكن تغييره من واقع الحياة الذي عاشته خلال السنوات التي حطّت بها رحالها أرض النمسا، بعد أن تمكنت من اللحاق بزوجها، وبابنتيها الكبيرتين اللتين اتخذتا من النزوح والهجرة طريقاً لهما في ظل واقع مزرٍ، وغياب الأمن، وإحلال الدمار والخراب اللذين لحقا بالكثير من الأبنية التي كان يقيم بها أهلها وتحولها إلى جدران صامتة كئيبة!

أحسّت حليمة بولادتها من جديد وهي تدوس بأقدامها أرض النمسا، ولأوّل مرّة، بصحبة أولادها، بعد أن كان السفر بالنسبة لها مجرد حلم وردي ينعش رغباتها ويزيل عنها لفحات نسمة صيفية دافئة، ومع ذلك أدركت أنَّ الغربة، بعد أن وصلت إلى بلاد النعيم، تظل لها ضريبتها، على الرغم من صخبها وتوافر الكثير من رغباتها، والسعادة الغامرة التي لمستها مع زوجها وأولادها.

وبعد أن قضت حليمة في رحاب النمسا، في ربوع عاصمتها فيينا ما يقارب ثلاث سنوات، فكرت في زيارة أخيها الوحيد وأخواتها الخمس المقيمات في مدن أقجة قلعة، أورفا، وعينتاب.


محاولاتها المتكرّرة، ورغبتها في السفر، حيث يعيش بعض أهلها، فضلاً عن العديد من أقاربها ومعارفها وأصدقائها الكثر دفعت بها إلى أن تتقدم بطلب إلى قنصلية السفارة التركية في فيينا علّ وعسى أن تلقى الموافقة بمنحها الفيزا ليتاح لها السفر إلى هناك، إلّا أنَّ محاولاتها باءت بالفشل رغم انتظارها المطول للحصول على تأشيرة الخروج التي لم تكن تدرك مدى صعوبتها، ورغبتها الشديدة في لقاء أحبتها، والشوق الكبير الذي ينتابها ما دعاها إلى تجديد الأوراق والوثائق المطلوبة لإبرازها إلى القنصلية التركية بواسطة أحد سماسرة مكاتب السياحة والسفر العاملة لأجل تحصيلها مقابل دفع مبلغ من المال.

المشكلة التي عانت منها حليمة ليست في المبلغ المالي المطلوب دفعه لصندوق السفارة، في حال تمت الموافقة على منحها الفيزا من عدمه، وإنما في الفترة التي ستقضيها في مراجعتها لمكتب السياحة والسفر، ووعوده المتكرّرة التي قطعها على نفسه إلى أن قام بإرسال أوراقها لاعتمادها بعد أن أحضرت له الصور الشخصية وكل ما يمكن أن يُسأل عنه.

تردَدت على صاحب المكتب السياحي، بصحبة ابنها الشاب، واتصلت به مرات عديدة، ولأكثر من شهرين دون جدوى، وبعد جدال مطول أعلمها بأن أوراقها أخيراً وصلت إلى مكاتب السفارة، وما عليها سوى مراجعتها، وبالفعل قامت حليمة بمراجعة مبنى السفارة التركية، وبعد انتظار أبرزت ما لديها من وثائق رسمية مصدقة، وشرحت الأسباب الموجبة للسفر، وبعد إعطائها الموافقة الأولية ودفعها المبلغ المالي المحدد لقاء الرسوم الخاصة بمنح الفيزا، وهذا المبلغ يدفع سواء تمت الموافقة أو الرفض على منحها تأشيرة السفر، وهذا مرتبط بالموظفين العاملين في السفارة، والجهات الوصائية المسؤولة عن استصدار التأشيرة من عدمه!

انتظرت لأكثر من ثلاثين يوماً ولم يتصل بها أحد من موظفي السفارة على موبايلها الخاص، أو على البريد الإلكتروني الخاص بابنها، ليخبرها عن مصير الفيزا، والتساؤل عن مبرر التأخير. زارت مقر السفارة وأعلموها بأن الجهات المسؤولة لم توافق على طلبها. أكدوا عليها المحاولة مرة ثانية علّ أن يحالفها الحظ في المرة القادمة!

كانت ردّة فعل حليمة صادمة، وهي تتلقى خبر عدم الموافقة على منحها تأشيرة السفر أسوة بغيرها رغم ضرورتها بالنسبة لها في هذه الفترة بالذات.. والرغبة بزيارة والدتها قبل مغادرتها تركيا متوجهةً إلى مدينة الرّقة، موطنها الأصلي، والإقامة بين ولديها وأحفادها الذين تركتهم، قبل أكثر من عامين، ولجوئها إلى تركيا مع من لجأ إليها، وبعد مرور أكثر من ستة أشهر، من مغادرة والدتها تركيا، وبقاء أخيها وأخواتها الخمس في ربوع بلاد الربيع التركي الدائم، والشمس المنعشة، بعد أن فقدت كل هذا الطيف الربّاني الجميل في النمسا، بسبب فترة الشتاء الطويل فيها وغياب أشعة الشمس بكثافتها التي تعوّدت عليها في بلدها الأصلي، أصرّت حليمة على التقدم بأوراقها من جديد، رغم المعاناة والإجهاد الكبيرين اللذين تعرضت لهما في المرة الأولى، ما جعلها تفقد الثقة في منحها الفيزا!


وفي محاولتها الثانية، كان الحال مختلفاً كلياً في طريقة التقدم بالوثائق من جديد إلى القنصلية التركية بواسطة ابنها الشاب، ابن العشرين ربيعاً، الذي عرف كيفية التقدم بها دون العودة إلى مكاتب السياحة والسفر.. وبالفعل، إن محاولات ابنها الجادة عكست لديها الرغبة في التقدّم للمرة الثانية بأوراقها من جديد، وإن كان ترددها، في هذه المرة، أقل وطأة من ذي قبل رغم فشلها في المرة الأولى.

ابنها مهند، شاب مجتهد وخبرته جيدة في استعمال الحاسوب، وفي الطريقة التي يمكنه معها أن يحقق حلم والدته في السفر إلى تركيا، البلد المجاور لسورية حيث موطنها الأصلي، وإلى المكان الذي ستسافر إليه بصورة مباشرة، وهو المكان الذي يلاصق تل أبيض، آخر مدينة تقع باتجاه الشمال السوري، وهي ملاصقة لمدينة أقجة قلعة التركية التي بالكاد تفصلها عنها مئات الأمتار!

رغبتها الملحّة في السفر لأجل خاطر عيون والدتها التي عاشت أيام فقر وعوز، وهرباً من الحرب السورية التي راح ضحيتها الكثير من الأطفال والشيوخ والشباب الأبرياء العزل، والإقامة مع بناتها وولدها الوحيد، تاركةً ولديها الكبيرين في ربوع الرَّقة، مقيمين في بيوت آيلة للسقوط بعد أن كانا يعيشان في مساكن مترامية الأطراف ومشغولة بأحدث طراز. هكذا كانت مشيئة القدر الذي أراد بالسوريين أن يتحول حالهم إلى إذلال وتعتير وفاقة نالت من أغلبيتهم ما دفعهم إلى الهجرة واللجوء إلى تركيا، البلد الآمن، حفاظاً، أقلّها، على أرواحهم والمكوث في رحابها.

وفي محاولة مهند، الطالب المجتهد، العارف بخفايا الكومبيوتر وبلغته، وهو الهاوي له، ومنذ الصغر والمتعلق به، استطاع تعلم اللغة الألمانية، وبجهد فردي وخلال فترة قصيرة جداً، وكان جلّ ذلك بسبب مواظبته على اتباع دورات اللغة، ناهيك باتباع دورات الاندماج ومتابعة ما ينشر من أفلام قصيرة عبر اليوتيوب تتناول هذا الجانب من حياة اللاجئين، ما سهّل عليه التعامل بالكومبيوتر بصورةٍ أفضل، فضلاً عن تعامله مع المواقع الإلكترونية المنتشرة، وبكثرة، ومتعلقاتها، ما أسهم في إنهاء الإجراءات الخاصة بوالدته من وثائق وأوراق رسمية بعيداً عن مراجعة مكاتب السياحة والوقوف أمام أبوابها، واشتراطاتهم المذلّة، ومواعيدهم المقرفة التي في أغلبها ما ينطلي على الناس السذّج من كذب وافتراء الذين يراجعونهم، وباستمرار لتخليص معاملاتهم، ومعرفة مهند بهذه الإجراءات وطرقها الملتوية كانت لها فائدتها الكبيرة في الدخول إلى موقع السفارة التركية المخصص بتقديم الوثائق التي يتم على أثرها منح الفيزا بعد الموافقة على الطلب المقدم، وبعد أن تمكن من توفير ما يلزم، وتقديمها أصولاً عبر البريد الإلكتروني الخاص بها، تمكن من الحصول على موعد مسبق من قبلهم لتقديم بقية الأوراق المطلوبة، مع دفع الرسوم المالية الخاصة بالفيزا.


في اليوم التالي، كانت حليمة وولدها مهند موجودين لدى باب السفارة التركية بانتظار الدخول إلى مبناها في النمسا، وبعد إجراءات التفتيش المتعارف عليها، تمكنا من الدخول إليها وتقديم ما بحوزتهما من وثائق، ودفع الرسوم المالية، كل هذا لم يدم أقل من أربع وعشرين ساعة.. وبعد أن خرجا من مبنى السفارة لم يصدقا أنهما، وبهذه السرعة، تمكنا من تقديم ما يلزم من وثائق وما عليهما سوى انتظار موافقة الجهات الأمنية ليصار بعد ذلك إلى منحها التأشيرة.

بادرت حليمة وولدها بالعودة إلى السفارة التركية بعد انقضاء ما يزيد عن الثلاثين يوماً وسؤال العاملين فيها عن مصير الفيزا. ذهلا من رد الموظف بالموافقة، وطلب منها جواز سفرها لإلصاق التأشيرة عليه، وما بقي سوى الحجز لدى إحدى شركات الطيران العاملة، وبالفعل تمكن مهند، بخبرته، من حجز تذكرة السفر عن طريق الإنترنت، وتأكيد سفرها إلى تركيا بعد نحو خمسة وعشرين يوماً.

أحضرت حليمة ما يلزمها، وأعدّت حقيبتها للسفر، ولكن، وللأسف، لن يحالفها الحظ بلقاء والدتها التي انتظرت قدومها لأشهر، إلّا أنها ستلتقي بأخيها الوحيد وأخواتها الخمس ومعارفها.

وأخيراً، تمكنت من السفر، وركوب الطائرة، للمرة الثانية باتجاه تركيا، ولقاء أحبتها هناك رغم خوفها من إجراءات المطار التي تجهلها، وخاصة في مقطعها الثاني إلى مدينة أورفا التي ستنوي الذهاب إليها بعد أن تكون قد تجاوزت في رحلتها في مقطعها الأول، والمتجهة من فيينا - إسطنبول، إسطنبول - أورفا.

وصلت حليمة إلى خط رحلتها الأخير بأمان، والتقت بأختها البكر المقيمة في أورفا، بعد غياب دام نحو خمسة عشر عاما.. وأكملت مشوارها متنقلةً في السيارة داخل الأراضي التركية ومدنها، سعيدة هانئة بالتعرّف عليها، وعلى أهلها وأصدقائها، وأسواقها ومحالها وشوارعها الفسيحة!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.