عندما حملتُ السيف الدمشقي

عندما حملتُ السيف الدمشقي

29 ابريل 2019
+ الخط -
اقتربت أيامُ الدورة العسكرية من نهايتها، ستة أشهر خسرتُ فيها الكثير من الكرامة والثقة بالنفس والوزن! وككل دورات الضباط العسكرية كان لا بدّ من تقديم عرض عسكري يُسمّى حفل التخرّج. هذا الحفل الذي سيبدأ بمسير عسكري على إيقاع موسيقي مصحوب ببعض الأغاني الوطنية مثل: "خبطة قدمكم على الأرض هدّارة". و"على أقدامكم سقط المحال وأورقت الرجولة والرجال".

ونظراً لطولي الفارع، وكما في كلّ مرة، كنت من العشرة الأوائل الذين سيشكّلون النسق الأوّل في المسير، هذا النسق هو الذي سيعطي الانطباع العامّ بالنجاح أو الفشل، وهو الذي سيكون تحت مجهر عيون السادة الضباط الكبار، التي ترتدي نظارات سوداء سميكة دائماً.

التعليمات واضحة؛ يجب أن نرفع أقدامنا جميعاً في الهواء بزاوية 45 درجة دون زيادة أو نقصان، وهي الدرجة ذاتها التي تميل فيها المصّاصة في كأس المتة بيد المدرّب. الأمر الثاني كان خبطة قدمنا، فخبطة قدمنا يجب أن تكون هدّارة، هدّارة قولاً وفعلاً، يجب أن يذوب زفت الساحة تحت أقدامنا، كما قال لنا الضابط المسؤول عن التدريب.


وهكذا، مرّ أسبوع من التدريب الحافل بالخبطات الهدّارة التي فكّكت عظام أقدامنا وشنّجت عضلات سيقاننا ولكن الزفت لم يذب، ولم ينبت على أقدامنا سوى المزيد من الشاش الطبي والضمادات، نتيجة التسلّخات التي كان الحذاء العسكري يتسبب لنا بها. وكانت حبوب البروفين 600 الزهرية اللون الوصفة الوحيدة في المستوصف؛ كفيلة بجعلنا نعود إلى التخبيط مجدداً كالحُمُر المستنفرة، دون أن نشعر بنزف كِعاب أقدامنا داخل الحذاء.

كنا نخبط الأرض بجنون متصاعد فتتوقف أدمغتنا عن العمل، ونشعر بعد مسير عدة أمتار أن أسوار القدس تتهاوى وأن الجولان بات تحصيلَ حاصل، لم أكن أعلم حينها أن خبط الأقدام هو الذي كان المسؤول عن إفراز "هرمون الانتصار"، ولكن الأيام اللاحقة وحلقات الدبكة الشعبية التي عمّت الساحات العامّة بعد كل قصف إسرائيلي أو أميركي، رسخّت لدي القناعة بوجود علاقة ما بينهما.

انتهى التدريب، بيننا وبين الحفل يوم واحد، نحن نستعد للبروفة الأخيرة، وفيها سيسير المدرب أمامنا ويؤدي تحية الصف للضابط قائد الدورة. جاء الضابط بلباسه الشرفي، يحمل بيده سيفاً برّاقاً بقبضة ذهبية. وما إن رأيته حتى توقف دماغي عن التفكير في أي شيء آخر، إنه السيف الدمشقي دون شك، وكيف لا يكون هو والجيش جيش الشام والسيف سيفها، ولا أحد بسيف سواه ينتصر؟ ألا يتجمّل المرء في حفل التخرّج بأجمل ما يملك؟ إذاً هو السيف الدمشقي.

السيف الذي اشتُهِرت به دمشق، وكان ملوك الأرض يتسابقون للحصول عليه لما له من مميزات خارقة كالخفة في يد المحارب، والحدة التي مكّنته من قطع منديل في الهواء كما تقول الأسطورة. هو السيف الذي عجزت كل المخابر العلمية في العالم عن فكّ كنهه، ومات كلّ صانعي السيوف في دمشق دون أن يبوحوا بسر صناعته. هو السيف الأسطورة، أمامي الآن، وتفصلني عنه أمتار قليلة.

أنهينا اللفّة الأولى، فطلب منا الضابط أن نستريح بينما يشرب كأس متة مع زملائه، سار بضعة أمتار ثم توقف، التفت إلى الوراء ونظر إليّ قائلاً: ماجستير الزفت اترك السيف معك.

لن أحدّثكم عن القشعريرة التي سرت في جسدي، ولا عن يديّ المرتجفتين وهما تحملان السيف. كنت في تلك اللحظة "تسو تسو" في "صراع الجبابرة"، وصلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد في وقت واحد. تجمّع العساكر حولي ورحت أحدّثهم عن السيف وأسرار صناعته وأساطيره وأشهر مَن حمله من الملوك والفرسان، وعن تموّجاته الغامضة التي لم نشاهدها حينها بسبب ضوء الشمس القوي. كان آية في الجمال والإتقان، غطّته الزخارف النباتية الفاتنة بشكل أنيق، وبخط عربي بديع نُقِش على قبضته "ولا غالب إلا الله"، بينما نُقِش على امتداد وجهي نصله "إن ينصركم الله فلا غالب لكم".

كنت لا أزال مشدوهاً في حضرة جلاله، عندما تنبّهت أخيراً لوجود رموز دقيقة اختبأت بين النصل والقبضة، حاولت القراءة فمنعتني الشمس، اقتربت أكثر فلطمتني عبارة: "Made in Germany".