رهائن الأمر الواقع!

رهائن الأمر الواقع!

28 ابريل 2019
+ الخط -
"لا أظن أن صديقنا المشترك فقد عقله كما تظنون، لكنه ربما فقد قدرته على أن يفصل نفسه قليلاً عن الواقع المحيط به، ليستطيع التعامل معه بشكل أفضل، بدلاً من أن يسلم نفسه لتقلبات أمواجه بشكل يجعله مهدداً بفقد عقله قريباً"، هكذا قلت مدافعاً عن صديقي العزيز وملتمساً له العذر، دون أن أظن في نفسي أو في أصدقائي الشاكين منه المشفقين على حاله تفوقاً أو أفضلية، فكلنا في الهم شرقٌ، لكن بعضنا يحاول أن يجيد التعامل مع همِّه على أمل السيطرة عليه، وبعضنا يسلم قياده لهمّه فيستبد به ويجعله فرجة للعالمين.   

قبل أسبوعين أو ثلاثة بالكثير، كان صديقي يعتقد أن الاشتراك في الاستفتاء على "التعدّيات" الدستورية عبث لا طائل منه ومضيعة للوقت والجهد، صحيح أنه لم يصل إلى حد اعتباره خيانة للثورة ولدماء الشهداء، كما فعل بعض عشاق المزايدات من أصدقائنا المشتركين، لكنه في الوقت نفسه اعتبر تلك المشاركة وقوعاً في فخ محكم يرغب نظام السيسي من خلاله أن يضفي شرعية على عملية هزلية، وهو ما يجب على الجميع أن يرفضه من حيث المبدأ، لكن صديقي لم يواصل التمسك برأيه، حين اشتدت فجأة وتيرة الدعوة إلى الاشتراك في الاستفتاء والتصويت بـ "لا"، والتي اكتسبت زخماً يومياً متصاعداً على مواقع التواصل الاجتماعي، بوصفها المساحة الوحيدة التي لم يحكم نظام السيسي سيطرته عليها بعد، وبالطبع لم أعتبر تغيير صديقي لرأيه أمراً معيباً، فلا أنا ولا هو من الذين يعتبرون التمسك بالموقف فضيلة في حد ذاتها، بل نحرص على التفريق بين المبدأ الذي لا يجب التنازل عنه أياً كان الثمن، والموقف الذي يمكن التراجع عنه حين تتغير معطياته. 

كنت في البدء أظن أن صديقي غيّر موقفه، حين استفزه الشكل المهين الذي تم به تحديد موعد الاستفتاء، مثلما استفز كثيرين، بعضهم كان لا يزال يحسن الظن بنظام السيسي، ويعتقد أنه سيكون حريصاً على إخراج مسرحية التعديلات الدستورية بأكبر قدر ممكن من الاحتراف "المباركي". قرأت لبعض هؤلاء "بوستات" يستنكرون فيها الشكل الهزلي الذي اختاره النظام لما أسماه بـ "الحوار المجتمعي"، والذي كانوا يتوقعون أنه سيكون على الأقل حواراً حقيقياً يأخذ وقته ومداه، خصوصاً أن النظام الذي أحكم قبضته على رقاب معارضيه و"بِضان" مؤيديه، ليس في حاجة إلى الاستعجال والكروتة. 

بعض هؤلاء زاد سخطه حين تم فجأة وبشكل مستفز، تغيير صيغة المادة الخاصة بتمديد فترة حكم السيسي، بعد عودة السيسي من زيارة "نيل الرضا الأميركي"، ودون أي استخدام لبرقع الحياء الوطني الذي تعودت أنظمة العسكر العربية على استخدامه، ليس تقديراً لفضيلة الحياء، بل لكي يساعدها ذلك البرقع على استمرار الشخط والنطر في معارضيها واتهامهم بالعمالة لأمريكا وإسرائيل، وهو ما لم يعد نظام السيسي معنياً به مؤخراً، راجع لطفاً نظرات الهيام والوله التي صوبها السيسي بلحظه الفتاك نحو مثله الأعلى دونالد ترامب على باب البيت الأبيض، وتذكر أيضاً حُمّى التنسيق الأمني والسياسي التي تتصاعد ذروتها باطراد، طبقاً لما باتت إسرائيل تعلنه دون حذر ولا حرج.

لم يكن الغضب من الشعور بالخديعة والاستغفال سبباً في تغيير موقف صديقي، ليصبح من أشد الداعين إلى المشاركة والتصويت بـ"لا" عالية خفاقة، بل كان الأمل هو الذي بدّل موقفه الداعي إلى مقاطعة كل ما له علاقة بصناديق الانتخابات قبل إسقاط نظام السيسي أولاً، لأنه شعر أن حركة الرفض والسخط المتصاعدة حوله، والتي انضم إليها أناس كان يعرفهم مؤيدين للسيسي ومصدقين لأكاذيبه، أصبحت تحتاج إلى منفذ قوي تصل عبره إلى مسامع النظام، لعله يدرك اشتداد حركة المعارضة التي بدأت تتصاعد منذ بيعه لجزيرتي تيران وصنافير ورفضه لاحترام حكم القضاء الإداري بوقف تنفيذ ذلك البيع المهين. 

ظن صديقي وليس كل الظن إثماً أن حركة الرفض المتصاعدة هذه، يمكن أن تقلق نظام السيسي، فيقوم بتغيير سياساته الأمنية الغشيمة، فيفرج مثلاً عن كثير من المعتقلين السياسيين، أو حتى يفرج عن بعضهم من ذوي الحالات الصحية الحرجة، أو حتى يتوقف عن إضافة معتقلين جدد إلى سجونه كل يوم تقريباً، وللأسف نسي صديقي مع زيادة انتشائه بالأمل المشروع، أن حرص نظام السيسي على القمع الغشيم، لم يأت صدفة، بل جاء تطبيقاً لأقدم نصيحة في منهج (ميكيافيللي) التي تذكر الحاكم بأن كونه مهاباً ومرهوباً أفضل له بكثير من أن يكون محبوباً ومنصفاً، وأن تغيير نظام السيسي لمنهجه الأمني لن يتحقق بسلاسة ولن يأتي طواعية، بل سيحدث إما بفعل ضغط خارجي قوي، يحرص النظام على عدم تحققه بتوريط البلاد في مزيد من صفقات الأسلحة والقروض، أو بفعل غضب شعبي عارم، يحرص النظام على عدم حدوثه بنشر المزيد من القمع العشوائي الذي يزيد تأثيره كلما خلا ذلك القمع من المنطق، وافتقد إلى أي معنى مألوف، خصوصاً لمن سبق أن مارسوا العمل السياسي من قبل. 

أدركت أن صديقي استسلم بالكامل لسطوة اللحظة الراهنة، حين قرأت له تدوينة يعلن فيها غضبه من أصدقاء وصفهم بأنهم من "مدمني العدمية السياسية التي لن تؤدي إلى حدوث أي تغيير في البلاد"، لمجرد أنهم أعلنوا أنهم سيصوتون بـ "لا"، إبراءً لذمتهم فقط، وتحدياً رمزياً لحالة الخنوع التي فرضتها السلطة على الجميع، وأنهم يدركون سلفاً أن ما سيقومون به لن يغير من نتيجة الاستفتاء المحسومة سلفاً، لكنهم سيفعلونه لإيصال صوتهم الرافض إلى النظام، دون اهتمام بما سيترتب على ذلك من نتائج، وهو موقف لا يختلف في الحقيقة عما كان عليه صديقي، حين أعلن بدء تحول موقفه من المقاطعة إلى المشاركة، قبل أن "يَسخَن" مع تصاعد حالة الرفض، وينتابه شعور غامض أن مفاجأة ما يمكن أن تحدث عبر صناديق الاقتراع، لأن "الناس على آخرها خلاص" ويمكن لهم أن يعتبروا الاستفتاء فرصة ذهبية لإعلان رفضهم للسيسي، خاصة أن الكثير من مؤيديه لن يكونوا حريصين على المشاركة هذه المرة، بعد أن باخت طقوس المولد الانتخابي، ولم تعد تجيب همها ببصلة، ولذلك أصبح صديقي يرى أن على الجميع أن يتصرفوا بحماس وعزيمة، ويحرصوا على حشد كل من يعرفونهم للمشاركة، خاصة بعد أن أعلن أنصار جماعة الإخوان رفضهم القاطع للاشتراك في استفتاء من شأنه أن يضفي الشرعية السياسية على نظام السيسي المغتصب لسلطة رئيسهم محمد مرسي، وهو ما جعل صديقي يقتنع أكثر بأهمية موقفه الداعي للمشاركة، لأنه مثل حالاتي، ممن يعتقدون أنه لا خلاص لمصر إلا عبر تيار سياسي مدني يرفض كلاً من العسكر والإخوان، ويرون أن رفضنا لما يتعرض له الإخوان من قمع وظلم، لا يجب أن يدفعنا إلى تكرار أخطاء الماضي التي جعلتنا نستجير من الرمضاء بالنار.

مع مرور الوقت وتراكم التفاصيل التي ظنها صديقي بشائر، نسي صديقي كل ما كان يقوله من قبل عن وجود اختلافات بين واقعنا التعيس وبين ما جرى في استفتاء تشيلي الذي كان سبباً في تعجيل الإطاحة بالجنرال بينوشيه، وأصبح يسارع إلى "تشيير" كل ما يقع تحت يديه من صور وبوستات وتغريدات "لكل من قال لا في وجه من قالوا نعم"، وحين بدا ارتباك النظام في إدارة عملية الاستفتاء بشكل ملحوظ، لم يكتف صديقي بموافقة من اعتقدوا أن حالة تأييد النظام فقدت زخمها بشكل مذهل، بل أصبح يعتقد أن هناك حركة معارضة هادرة، انضم إليها الذين تم إجبارهم على الاشتراك في الاستفتاء بخطفهم من المواصلات العامة، أو بابتزازهم عبر كراتين المواد الغذائية، التي جلبت للسيسي لقباً ساخراً جديداً هو "أبو كرتونة"، معتمداً في اعتقاده على بوستات متناثرة روى فيها أصحابها أن أغلب من تم إجبارهم على التصويت بسيف التهديد أو بذهب الزيت والسكر، اختاروا أن يصوتوا بالرفض انتقاماً لكرامتهم، ليصبح السؤال الذي يشغل بال صديقي: كيف سيتعامل نظام السيسي مع الفشل الذريع الذي سيواجهه عند فرز الصناديق؟ 

حين صدرت تعليمات اللجنة العليا للإنتخابات بإبعاد الصحفيين والإعلاميين عن عمليات فرز الأصوات، وبعد أن انتشرت أخبار اتضح أنها غير صحيحة عن أن عمليات الفرز ستستغرق عدة أيام، كسرت حماسة صديقي كل الأسقف الافتراضية العالية، وأصبح على يقين أن الشعب لن يقبل هذه المرة أي تزوير فاضح لإرادته، وأن النظام سيضطر لأن يكون واقعياً ويعلن النتائج الحقيقية للاستفتاء، لكن صديقي الذي لم يفقد واقعيته وحذره بشكل كامل، بدا متأرجحاً بين سيناريوهين، الأول: أن يقبل النظام إقراره بالفشل في تمرير التعديلات الدستورية ويدعو لإعادة التفكير فيها ثانية من خلال البرلمان لتأخذ هذه المرة وقتاً أطول في مناقشتها، فيكتسب بذلك القرار المفاجئ والماكر شعبية ربما يستعيد بها بعض من فقدهم من مؤيديه، وبالأخص عشاق الشياكة في التزوير والشطارة في التقفيل، فيسجل بذلك هدفاً صعباً في مرمى معارضيه، والثاني: أن يعلن النظام انتصار الصوت المؤيد للتعديلات الدستورية بفارق ضئيل، بشكل يشبه ما حدث من قبل في عهد الإخوان، مع إقراره بوجود حضور ضئيل في نسبة المقترعين، وبالطبع لن يغير ذلك شيئاً في تمرير التعديلات، لكنه سيعني اعتراف النظام بوجود معارضة كبيرة له لأول مرة، وهو ما قد يدفعه إلى القبول بعمل إصلاحات سياسية في المستقبل، تستعيد لمصر وجهها المباركي الذي ألفته وآنست إليه ثلاثة عقود كاملة. 

لذلك، لم يكن غريباً أن يطيش صواب صديقي وينفجر غضبه، حين قرر نظام السيسي أن يعتمد على "الفُجر" وحده لا شريك له، كدعامة سياسية، فيعلن أن من شاركوا في استفتائه الهزلي، زاد عددهم على من سبق أن شاركوا في استفتاء مارس 2011 الذي كان ظاهرة فريدة من نوعها، تسابقت كاميرات المصورين على تسجيل تفاصيلها بشكل غير مسبوق، ويعلن أن من قالوا (لا) لتعديلات الدستور، لم يكونوا سوى أقلية لم تصل حتى إلى حاجز الثلاثة ملايين صوت، وأن نسبة الـ 88 في المائة وكسور التي حققتها الأصوات الموافقة على التعديلات، تعني وجود أغلبية شعبية كاسحة تؤيد بقاء السيسي على كرسي الرئاسة حتى عام 2030، وهي ذات الأغلبية التي يمكن أن تؤيد تعديل الدستور مجدداً لإبقائه فترة أطول، ويمكن أن تضمن حكم ابنيه من بعده لمصر حتى يجيب الله أجلها ومن عليها.

حتى الآن، لم أفهم من أين استمد صديقي العاقل الذكي اعتقاده أن نظام السيسي يمكن أن يفكر بشكل عاقل أو ذكي، وهو النظام الذي بدأ سيطرته على الحكم عبر سلسلة مجازر مدعومة شعبياً، ألغت أي قابلية للتفكير العقلاني، وأغلقت المجال العام بالضبة والمفتاح، ولم أفهم كيف يجمع صديقي في الوقت نفسه بين تشكيكه الكامل في الرقم الذي أعلنه النظام للمشاركين في الاستفتاء، وترحيبه الشديد بوجود ما يقارب من ثلاثة ملايين مواطن يرفضون رغبة النظام في البقاء، ولماذا لم يمتد تشكيكه في عدد المشاركين والمؤيدين إلى عدد المعارضين الذين يمكن أن يكونوا أكثر من الرقم الذي تم إعلانه بكثير؟ وكيف نجح النظام في أن يوقعه في فخ القبول بالأمر الواقع، فيبدو رافضاً لوجود ملايين يقول النظام إنهم وقفوا في صفه، ويبدو في ذات الوقت مرحباً بوجود ملايين أقل يقول النظام نفسه إنهم رفضوا رغبته في البقاء؟ 

يهمني أن تعرف أن مشكلتي الحقيقية مع صديقي، تكمن في أنني لا أعتبره مجرد مواطن يستخدم حسابه الشخصي على الفيس بوك أو تويتر للفضفضة أو الهبهبة، فهو إلى جوار كونه مواطناً صالحاً يمتلك الكثير من الفضائل، كائن مسيّس منشغل بالعمل العام منذ سنوات، ويحرص على التواصل مع كثيرين يشترك معهم في السعي إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وفي رفض الظلم والفساد والتجهيل والإفقار، ولذلك انشغلت بتأمل مواقفه السياسية التي تذكرني بكثيرين ممن أعرفهم وأكن لهم كل مودة، فيدهشني أن أراه مثلهم حريصاً على تحية النواب القليلين الذين رفضوا تمرير التعديلات الدستورية، ويضعهم في لوائح للشرف والمجد، بينما كان في الماضي القريب يرفض الاشتراك بأي صورة من الصور في الانتخابات البرلمانية التي أنتجت ما كان يصفه ببرلمان العار، ويعتقد أن سيطرة الأجهزة الأمنية على الانتخابات كانت تستلزم وجود نسبة ضئيلة من النواب المعارضين لإضفاء طابع حقيقي على البرلمان، لا يمكن أن تلغي هزليته أو تنفي طابعه الكرتوني، لكنه حين يجد تحت قبة البرلمان أصواتاً قليلة رافضة لبيع جزيرتي تيران وصنافير للسعودية أو لتمرير التعديلات الدستورية، يتحمس لأصحابها بقوة، فأسأل نفسي: لماذا إذن لم يحرص صديقي من قبل على أن يشارك في الانتخابات البرلمانية بكل ما استطاع من جهد، ليزيد عدد أولئك المشتركين في لائحة الشرف، ولماذا كان يسفه من جهود الراغبين في المشاركة ويراهم في أحسن الأحوال حمقى أو مغرراً بهم؟ ولولا أنه يمقت المزايدات والعنتريات، لذهب أبعد فوصفهم بالخيانة لأنهم يضفون شرعية على نظام السيسي؟

حين أرى صديقي يناقض نفسه في مواقفه من الأحكام القضائية التي تصدر عن محاكم السيسي، فيصف بعضها بأنها هزلية ومملاة بالتليفون على القضاة، وبعضها بأنها تاريخية وعادلة صدرت عن قضاة لا يخافون إلا الله، أتفهم ذلك التناقض بشدة، ليس فقط لأنني أصبحت أدرك أن الحكم القضائي في أيامنا هذه، عنوان لحقيقة من أصدره، وليس عنواناً للحقيقة على إطلاقها، وأنه لا أمل في أي عدل حقيقي، في ظل قضاء غير مستقل، بل لأنني أتفهم أيضاً حاجة الإنسان الماسة إلى إيهام نفسه بأنه يعيش في واقع يحمل قدراً ما من التماسك، لتزيد بذلك قدرته الشخصية على التماسك، وتقل قابليته للانهيار، لكنني في الوقت نفسه لا أتفهم كيف يجمع صديقي بين احتقار العمل السياسي الواقعي الذي يسعى إلى الحصول على أكبر عدد من المقاعد النيابية يمكن أن تتيحها الظروف الراهنة، وبين احتفائه بالنواب القليلين الرافضين لتوجيهات السلطة، وهم بالقطع يستحقون كل تقدير لوقوفهم في وجه السلطة الغشيمة، في أيام لم يعد من حق أحد أن يجتهد حتى في شكل و"تون" التعريص. 

للأسف، لا أفهم كيف يجمع صديقي بين رفض بعض الأرقام التي تعلنها السلطة والترحيب بأرقام أخرى لمجرد أنها تثبت له أنه ليس وحده، وكيف يعتقد أن أي عمل سياسي لن يكون له جدوى في ظل سيطرة الأمن على المجال العام، لكنه يعتقد في الوقت نفسه أن تدوينات الفيس بوك وتغريدات تويتر يمكن أن تكون مؤثرة في تغيير شكل الواقع؟ وكيف يظن أن هناك تياراً سياسياً مدنياً مناهضاً للعسكر والإخوان يمكن أن يبقى إلى الأبد حبيس مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن يلتحم بأحزاب سياسية، بعضها موجود بالفعل على الأرض لكنها تفتقد إلى أي مشاركة أو دعم؟ وكيف لا يجد صديقي الشجاع مشكلة في إعلان رأيه الغاضب الساخط الذي يعلم أنه يمكن أن يفضي به إلى المعتقل؟ لكنه في الوقت نفسه يجد مشكلة في المشاركة في حزب سياسي قريب من آرائه أو أفكاره، لأن ذلك يمكن أن يفضي به إلى المعتقل؟ 

لا أقول آرائي هذه صراحة لصديقي العزيز، لأنني منذ أن باعدتنا ظروف السفر، أحرص على أن يظل بيننا ود صافٍ لا يخدشه سوء فهم لعين، قد يجعله يعتقد أنني أزايد على مواقفه، لأنني لا أقع تحت نير الأخطار التي تتهدده، ولأنني أيضاً أدرك أنه وهو النبيه والمتابع لما يجري الآن في السودان والجزائر عجّل الله لشعبيهما بالخلاص السليم، وما جرى قبلهما في تونس، سيدرك حتماً أن أي تحركات ترفض الوضع الراهن في مصر، لن يكون لها قيمة إلا إذا تمت من خلال كيانات سياسية منظمة وفاعلة، وإذا لم يحدث ذلك، فإن تلك التحركات الرافضة، مهما كانت صادقة وقوية، ستساعد في نهاية المطاف على تكريس الأمر الواقع الذي يسعى نظام السيسي إلى فرضه، ولذلك لم يجد نظام السيسي في اعتقادي، مشكلة في إعلان أن عدد من رفضوا بقاءه وصل إلى ثلاثة ملايين، حتى لو كان يعلم أنهم أكثر من ذلك بكثير، لأن وجودهم على الورق، مجرد أرقام متناثرة غير متجانسة، يفيده ولا يضره، ويكرس بقاءه ولا يهدده. 

بالتأكيد، لن تقف أجهزة السيسي الأمنية تتفرج على أولئك الملايين التي قالت لسيدها ورجاله: لا، ولن تتسامح مع أي محاولات جادة لتنظيم هؤلاء، أو استثمار جهودهم في فعل سياسي مؤثر، ولن تكف عن إقناع السيسي بقدرتها على شكم البلد بشكل يصل في كماله إلى ما حققته أنظمة صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي من قبل، لكن من قال إنني مشغول بتغير عقليات ضباط تلك الأجهزة، قدر ما أنا معني بتغير عقلية صديقي الذي لا يخاف ضباط الأجهزة الأمنية إلا من أمثاله، من المخلصين الراغبين في تغيير الواقع، ولا يريحهم في الوقت نفسه، إلا بقاء أمثاله كارهين للعمل السياسي بإيقاعه البطئ وتفاصيله المملة، أو حتى متثاقلين عنه لأنهم يفضلون انتظار لحظة الانفجار، التي يظن صديقي أن خلاصنا الأكيد يكمن في عودتها من جديد، مع أنها لو جاءت مجدداً، دون أن نغير تفكيرنا، لن تتغير نتائجها. 

أو هكذا أظن.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.