الاستيلاء على أرض العمّ حسين!

الاستيلاء على أرض العمّ حسين!

26 ابريل 2019
+ الخط -


أدرك العمّ حسين الفلاح البسيط، ابن الأربعة والسبعين عاماً، أنَّ اللجوء إلى القضاء ودور المحاكم في هذه السنّ، وإن كان فيه من المشقّة والتعب بالنسبة له، الكثير من المعاناة، يظل بدون جدوى، ولا سيما أنه يعيش في قرية ريفية نصف حضرية تفتقد إلى أبسط المرافق الخدمية في مكان قصيّ عن المدينة، بالكاد أن حَكَم قُضاتها يوماً في قضية معروضة عليهم الحُكم المُنصف الذي يُناسب الجرم الذي اقترف بحق مرتكبه، ومع هذا كان إصراره لا يحدّه حدود بالتقدّم بوثائقه التي يحتفظ بها في كيس من القماش منذ سنوات، إلى ديوان المحكمة في مدينته شارحاً قضيته، لعلَّ وعسى أن يُستجاب لطلبه، وأن يحظى برجلٍ عادل من قضاتها، يحسم مشكلته مع أرضه التي سُلبت منه وعن سبق إصرار، من قبل أحد موظفي الحكومة بالاستيلاء عليها بذريعة تخلّفه عن القيام بالأعمال التي من أجلها مُنح حق التصرّف بها وإهماله لها، ومن حق الجهة المعنية في هذه الحالة نزع يده عنها ولها الحق بمنح رخصة بإشغالها إلى غيره، على الرغم من أنه سبق أن شغلها لأكثر من عشرين عاماً، وبصورة متوالية، وإنتاجها من المحاصيل الزراعية صار مثار إعجاب كل من عرفه!


وفي أكثر من مرّة وقف فيها العمّ حسين، يحاول الدخول إلى مبنى المحكمة وإلقاء أوراقه أمام كاتب محكمتها، وإتاحة الفرصة له بلقاء أحد قضاتها، الذين كما نمي له أنهم لا يحكمون بنور الله وبكتابه، وإنما الحكم في أمثال قضيته وفي غيرها من القضايا الكثيرة المعروضة أمامهم، يتم النظر إليها والبت فيها حسب مزاج القاضي، الذي يعود له كامل الصلاحية في استصدار القرار المناسب من عدمه، وهو بعيد عن المحاسبة، ولا يوجد من يقف حائلاً بينه وبين اتخاذ قراره النهائي أياً كان مهما كانت صيغته القانونية.
طبيعي أنَّ العمّ حسين، ورغم كبر سنّه، إلّا أنه يمتاز بروح مرحة. رجل ذكي، مقدام، مخلص لعمله، ودود في علاقاته مع الناس.. وهو الإنسان الذي يؤمن بقضاء الله وقدره. في الواقع، إنه رجل زاهد ويعرف حدود دنياه.
قضية العمّ حسين، وإن كانت تتضمن الكثير من الصور المهمّة، وترصد مدى الغبن الذي لحق به من جرّاء توزيع الأراضي الحكومية لمستحقيها، غير أن موظفاً حكومياً حقوداً، قبل نحو ثلاثين عاماً، وقف حجر عثرة في تحقيق حلمه بالاستيلاء عليها وحرمانه منها، إلّا أنه بعزيمته وبرغبته، وجرأته المعروفة عنه كان يحاول الوصول إلى حقه المغتصب، والعمل على إعادة أرضه التي تم الاستيلاء عليها من قبل الحكومة، بسبب موظف بسيط كانت تربطه بالعمّ حسين علاقة لم تخلُ من الحساسية والثأر العشائري، أضف إلى أنه قريب له من طرف خالته، وهذا ما دفعه إلى أن يحرمه من قطعة أرض إضافية كانت ملاصقة لأرضه الأم التي يملكها ويقوم على فلاحتها واستثمارها، ولا يتجاوز حجمها مساحة شارع من شوارع قريته الترابية التي لم تعرف للزِّفْت طعماً، وهي غير قادرة أن تسدّ الرمق، وحاجة أسرته ما تدرّه عليه سنوياً من غلّتها التي يزرعها بالقمح، أو ببذار البطيخ الأحمر، وهو الذي يقوم شخصياً على زراعتها والإشراف عليها، وظل حرمانه من أرضه قائماً على مدى ثلاثين عاماً قضاها بانتظار الإفراج عنها ودفع ما بين يديه لاستثمارها من جديد، والسبب ذاك الموظف المتواطئ مع إدارته، العامل في قسم توزيع الأراضي الزراعية، العائد لمديرية الزراعة في مدينته التي يقيم فيها، وطالما كان يفكر، وطوال الأيام الماضية، في أرضه ذات المساحة الشاسعة، وفي حال عودة قطعة الأرض الثانية إليه، باستصدار حكم المحكمة واكتسابه الدرجة القطعية، وضمّها إلى أرضه التي يقوم على شغلها، وهذا ما يزيده فرحاً وسروراً، وما سيجعل من العمّ حسين الذي يعيش حياة فقر مدقع وعوز حقيقي مع أبنائه العشرة، فضلاً عن زوجته وأختيه العازبتين اللتين تعيشان معه في بيته المتواضع المبنيّ من اللبن الغشيم، بعد أن فاتهن قطار الزواج، وفقدانهن لوالدهن، في فرح حقيقي، وهو الذي لم يتوقف يوماً عن طرق أبواب المسؤولين وإلحاحه الشديد للوصول إلى حل مشكلة أرضه، التي يأمل عودتها واستثمارها من جديد.
بخبرته، وبحدسه، وبملامح شخصيته القوية، أدرك أن الحلّ الوحيد الذي يمكنه أن يعيد إليه أرضه، بعد أن استشار عدداً من معارفه وأصدقائه المتعلمين، هو باللجوء مكرهاً إلى المحاكم.
المحكمة المختصة وحدها القادرة على أخذ حقه وتعيد له أرضه التي فقدها، لأجل خاطر عيون إنسان حقود متواطئ مع زملائه الموظفين، وهو الذي حرمه من استثمارها ودخلها المادّي على مدى أكثر من ثلاثة عقود!
شكلت هذه الرؤية حالة توافق، ورغبة شديدة لدى العمّ حسين، وتوقاً ملحّاً بزيارة مبنى المحكمة وعرض شكواه، لعلّها تلقى أذناً صاغية.
في مبنى المحكمة التي جاءها للمرة الأولى، من مكان سكنه الذي يبعد عن المدينة نحو ستين كيلومتراً راكباً الميكروباص ومتوجهاً إليها مع إشراقة الصباح، التي وصل إليها مبكراً، وطلب من أحد أصدقائه المحامين مساعدته في كتابة معروضه الشخصي ليقدمه إلى مقام المحكمة متضمناً وضعه الحالي، ومؤكداً ضرورة عودة الأرض التي كانت بحوزته، أو على الأقل تعويضه مبلغاً مناسباً من المال.
وقف العمّ حسين أمام ديوان المحكمة حاملاً ورقته، وسلّمها بنفسه إلى موظف المحكمة بعد أن ألصق عليها الطوابع القانونية، وأكد له الموظف مراجعة المحكمة بعد أسبوع من الآن.. وبالفعل عاد العمّ حسين أدراجه بعد قضاء أسبوع في ربوع قريته، إلى مبنى المحكمة لمعرفة نتيجة ما سبق أن تقدم به من شكوى.
أعلمه كاتب ديوان المحكمة أنّ طلبه ما زال قيد الدراسة، يحتفظ به القاضي في درج طاولته الخشبية، وأشار عليه كاتب الديوان أن طلبك يحتاج إلى وقت أطول، لإصدار القرار اللازم والبتّ فيه.
انتظر العمّ حسين مطولاً لدى كاتب المحكمة علَّه يفرج اليوم عن شكواه، وإنهاء مشكلته في الذهاب والعودة إلى قريته، آملاً أن يصدر القاضي قراره، ويخلّص العم حسين من عناء السفر، بقطعه عشرات الكيلومترات للوصول إلى مبنى المحكمة، ودفعه المبالغ الكبيرة إلى سائق الميكروباص الذي يأتي به باستمرار، حاملاً إياه إلى المدينة لمعرفة ما وصلت إليه المحكمة في دعواه التي ينتظر البتّ فيها بفارغ الصبر.
اضطر العمّ حسين إلى مغادرة مبنى المحكمة، وعاد إلى قريته بعد أن اشترى بعض حاجاته من سوق المدينة... وبعد قضاء أسبوعين عاد مرة ثانية، وسأل كاتب المحكمة عن مصير شكواه التي تقدم بها إلى القاضي، فأعلمه أن القاضي أرجأ النظر بالدعوى، وهو يتحفّظ عليها في الوقت الحالي، لأنها بحاجة إلى موافقة إدارية من الجهات الرسمية، وليس الأمر مرتبطاً بقاضي المحكمة شخصياً.

أدار العمّ حسين جسده الضخم المتهالك، وعاد إلى قريته التي يعيش فيها منذ نعومة أظفاره، وبعد قضاء أشهر على مغادرته ديوان المحكمة، ذكّرته زوجته بمضمون المعروض الذي سبق أن تقدم به إلى مقام المحكمة منذ أشهر إلّا أنه لم يعرها أي اهتمام، وعرف العمّ حسين أن الأرض، موضوع الخلاف، من الصعب التخلّي عنها من قبل أصحاب القرار المستفيدين من تعطيل إجراءاتها وتسليمها لمستحقها، وما عليه سوى البقاء في قريته، والاهتمام بما تبقى لديه من أرض زراعية مرويّة، وإن كانت مساحتها ضئيلة جداً لا تسدّ الرمق أفضل له من الركض في طريق مجهول أشهراً وسنوات، واستمر العمّ حسين مطرقاً الرأس يفكر في أرضه التي لم يحسن إعادتها إلى أختها، التي ظلّت زوجته وأولاده يفلحونها ويبذرونها ويعيشون من دخلها، وإن كان زهيداً.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.