أين ذهب هتلر المصري؟

أين ذهب هتلر المصري؟

24 ابريل 2019
+ الخط -
في سلسلة الحلقات الإسرائيلية الوثائقية (داخل الموساد) التي بدأت شبكة (نيتفليكس) عرضها مؤخراً، أجرى مخرج الحلقات لقاءات مطولة مع عدد من ضباط الموساد الذين نفذوا مهمة تهريب مئات من يهود أثيوبيا الذين اشتهروا إعلامياً بلقب (يهود الفلاشا)، والتي تم تنفيذها عبر رحلة تهريب بحرية معقدة، استخدمت مركزاً سياحياً مهجوراً للغطس والرياضات المائية، ليكون مقراً لعمليات تهريب اليهود الإثيوبيين إلى إسرائيل، في غفلة من رقابة الأجهزة الأمنية السودانية المشغولة بقمع المعارضين كعادتها.

خلال قراءتي لأرشيف صحيفة (الأهالي) المصرية الصادرة عن حزب التجمع اليساري المعارض والتي كانت أبرز الصحف المصرية المعارضة في الثمانينات، حين كان يرأس تحريرها الكاتب الكبير الأستاذ حسين عبد الرازق، وجدت تقريراً منشوراً بتاريخ 18 إبريل 1984 بعنوان مثير للاهتمام: "مصادر مطلعة تكشف للأهالي أسراراً هامة عن: هتلر المصري وأطراف سودانية وأريترية يهجّرون يهوداً أثيوبيين إلى إسرائيل عبر السودان"، وكان من الملفت أن التقرير سبق بسنوات ما نشرته الكثير من الصحف العربية والدولية عن ما أصبح يعرف بفضيحة تهريب يهود الفلاشا، عقب الإطاحة بنظام الرئيس السوداني جعفر النميري وهروبه إلى مصر.

جاء في نص تقرير (الأهالي) ما يلي: " أفادت مصادر مطلعة موثوق بها أنه قد جرى ترتيب عملية تهجير عدة مئات من يهود أثيوبيا في أواخر 79 وخلال 1980 إلى إسرائيل عبر أراضي السودان، بتعاون وثيق بين أطراف يهودية مالية وأمريكية وأريترية وسودانية وشخصية مصرية كانت تقيم وقتها بالسودان. بدأ مشروع العملية خلال فترة معركة الأوجادين الشهيرة بين الصومال واثيوبيا التي كانت تعاني من اضطرابات في إقليم تيجراي القريب من الحدود مع السودان، عرضت شخصية أمريكية على عنصر إريتري مقيم بواشنطن وقتها، استعداد بيوت مالية يهودية أمريكية لتمويل عملية التهجير بواقع 10 آلاف دولار عن كل يهودي أثيوبي يتم نقله.

طرح المندوب الإريتري المشروع على شخصيتين أريتريتين "ع. أ" و "أ. ت" قدمتا أنفسهما كاتجاه عربي إسلامي داخل الثورة الإريترية وأحدثا تغييرا هاما في مسارها مؤخرا. قبلت الشخصيتان المشروع بحجة تمويل قوات الثورة التي كانت تعاني مصاعب مالية وعسكرية شديدة في ذلك الوقت. سافر المندوب الإريتري القادم من واشنطن إلى منطقة الغضارف (إلى الجنوب من منطقة كسلا السودانية) حيث يتجمع اللاجئون الأثيوبيون وبينهم عدد من الفلاشا اليهود، ونجح في تسفير 90 فردا منهم تم نقلهم إلى ألمانيا الغربية في نهاية عام 79 واستلم 900 ألف دولار عن العملية، ومن ألمانيا طاروا إلى إسرائيل ليساهموا في أعمال المستوطنات بالأراضي العربية المحتلة.


بعدها أصدرت الشخصيتات الإريتريتان أوامرهما إلى وحدات مقاتلة بالدخول إلى محافظة بقمدر المتاخمة للسودان والتي يقيم فيها الفلاشا، تحت غطاء تقديم الدعم للمعارضة الأثيوبية التي كانت في حالة من الصراع المسلح مع السلطة الأثيوبية، لتهجير عدد من اليهود، لكن المحاولة لم تنجح فركز المشروع بعد ذلك خلال عام 80 على تجميع اليهود الأثيوبيين الذين يصلون إلى داخل أراضي السودان. وبالفعل تم تجميع 400 يهودي في لواري كبيرة بمنطقة القضارف تمهيدا لنقلهم إلى منطقة سواكن السودانية على البحر الأحمر، لينقلوا بعدها بمراكب إلى المياه الدولية حيث تنتظرهم قطع من البحرية الإسرائيلية، لكن سلطات الإدارة المحلية في الغضارف اعترضت عملية نقل اللاجئين لأسباب إدارية محضة وعرقلت العملية، مما أدى إلى غضب الطرف الأمريكي الذي هدد المندوب الإريتري بأنه سيتصرف بعيدا عنه "لأن العملية كبيرة والوقت عنصر هام فيها حيث مخاطر انتظار البحرية الإسرائيلية في مناطق متوترة". وبعد أسبوع واحد نجحت عملية النقل نتيجة تعاون شخصية أمنية سودانية كبيرة ع. ط. وشخصية مصرية اتخذت لها اسم هتلر وكانت تقيم وقتها 1980 بالسودان، وتقاضت الشخصيتان مليون ونصف مليون دولار مقابل التسهيلات التي قدمتها، وأفادت المصادر المطلعة الموثوق بها بأن عملية التهجير استمرت بعد ذلك".

لفت انتباهي أن صحيفة (الأهالي) لم تنشر في أعدادها التالية وعلى مدى أسابيع لاحقة أي تفاصيل إضافية عن هذا الموضوع الخطير، كما أن الصحف الحكومية الصادرة في الفترة نفسها تجاهلت ما نشرته (الأهالي) تماماً، برغم أنها كانت تقوم بمناوشات صحفية كثيرة مع (الأهالي) فيما يخص مواضيع أقل أهمية من هذا الموضوع، وحين حاولت قبل أكثر من عام التواصل مع الأستاذ الكبير حسين عبد الرازق رحمه الله، لمعرفة تفاصيل أكثر عن التقرير المنشور، وما إذا كان المصدر الذي اعتمدت عليه (الأهالي) قد قام بتحديد شخصية (هتلر المصري) بشكل أو بآخر، لكن الصحيفة لم تتمكن من نشر اسمه لأسباب قانونية، كان الأستاذ حسين وقتها في حالة صحية سيئة، فقال لابنه الصديق العزيز جاسر الذي تكرم بنقل السؤال إنه لا يذكر تفاصيل ذلك التقرير للأسف، وحين عدت إلى كتابه المهم (الأهالي صحيفة تحت الحصار) الذي صدر عن دار العالم الثالث سنة 1994 وقدّم فيه الأستاذ حسين توثيقاً متميزاً لتجربة (الأهالي) في تلك الفترة العصيبة من تاريخ مصر، لم أجد في الفصل الخاص بسنة 1984 أي إشارة إلى التقرير، لأنه انشغل فيه أكثر بتوثيق المعارك السياسية والصحفية التي خاضتها (الأهالي) قبل وأثناء انتخابات 1984 البرلمانية، لكنني وجدت تحت وصف ما أسماه الأستاذ حسين بـ (التسلل داخل الدولة)، إشارة إلى عدد من التقارير والتحقيقات التي اعتمدت على مصادر حكومية رافضة لسياسات نظام مبارك، وأمدت الصحيفة بوثائق ومعلومات أحدثت ضجة كبيرة في ذلك الوقت.

لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن يكون مصدر تقرير (هتلر المصري) شخصاً من داخل الأجهزة الأمنية المصرية، فربما كان مصدره شخصاً عليماً ببواطن الأمور في السودان، خصوصاً أن (الأهالي) لعبت في تلك الفترة دوراً بارزاً في معارضة نظام جعفر النميري، في عز تقاربه مع نظام مبارك، لدرجة أن مبارك سافر خصيصاً إلى السودان لدعم النميري، بعد أن قام بشن حملة اعتقالات واسعة لرموز المعارضة من كافة الاتجاهات، وقد أدى موقف (الأهالي) المعارض للنظام السوداني وقتها، إلى خسارة الصحيفة لواحد من أبرز وأشهر كتّابها، وهو الكاتب اليساري المستقل صلاح حافظ، الذي كان قد اختلف مع الصحيفة قبل ذلك في موقفها من الرئيس السابق أنور السادات ومعاهدة كامب ديفيد، وحين منعت الصحيفة نشر مقال له في عموده الأسبوعي (دبوس) كان قد أعلن فيه تأييده للنميري، توقف عن النشر في الصحيفة، وخلفه الكاتب فيليب جلاب في كتابة العمود الذي اشتهر به وظل يحرره حتى وفاته.

ومن يدري، ربما تفتح المعلومات التي صرحت إسرائيل بنشرها عن العملية وطريقة تنفيذها، شهية أحد الصحفيين الاستقصائيين للتحري عن القضية والتقليب في ملفاتها، فنعرف ولو بعد فوات الأوان من هو هتلر المصري؟ ومن يدري فربما يتضح لنا بعد معرفة اسمه أن أوان فضحه لم يفت بعد.

.....

أيها السوريون إن كيانكم في خطر
"شعب يموت على مرأى ومشهد من معتمدي الدول المحايدة. شعبٌ يحتضر نساءً وأطفالاً وشباناً عنوةً وقسراً، ظلماً وجوراً فلم يحرّك هؤلاء ساكناً وبوسعهم أن يمنعوا أتمام تلك الفظائع فلم يفعلوا ولن يفعلوا. فاجعتنا أن من الشعوب المتمدينة (كما يقولون) من هو راض عن فعلة حكومتنا لأغراض واطماع سياسية في النفس أو الحقد وضغينة في الصدر ومنها من لا يريد أن يهتم لشعب قد لا تساوي حياة بنيه اهتمامه. لا يريد ان يهتم لشعب مظلوم يحتضر، شعبٌ من بني الانسان وصلبه، شعبٌ فيه الشيوخ والنساء والاطفال والشبان والضعفاء الحول والقوة، على أنه يدعي المدنية والمروءة ويفاخرنا بهما بل هو يدعي أنه يريد تمديننا نحن الشرقيين برسله وجمعياته وتلقيننا المبادئ السامية الحرة كما يزعم وها هي تلك الشعوب تلقننا اليوم مبداً جديداً وهو أن البقاء انما هو للقوى الهمجي المفترس وهو وحده صاحب الحق والحول ولمشيئته الفعل والعمل".


كان هذا مقتطفاً مما نشرته مجلة (اللطائف المصورة) في صدر عددها رقم 101 الصادر بتاريخ 15 يناير 1917 تحت عنوان "يقظاً أيها السوريون يقظاً أن كيانكم في خطر"، تعقيباً على الأحداث الدامية التي شهدتها سوريا، والتي بدأ تصاعدها بعد قيام واليها العثماني جمال باشا ـ الشهير بجمال باشا السفاح ـ بتنفيذ حملة إعدامات وحشية وصلت إلى ذروتها في يوم 6 مايو 1916 الذي تم إعلانه بعد ذلك عيداً للشهداء، والتي يقول أسعد مفلح داغر في كتابه (ثورة العرب) تعليقاً عليها: "ولا يعلم أحد عدد الذين شُنقوا من أبناء الأمة العربية في سوريا، ولكنهم على كل حال يعدون بالألوف فضلاً عن الضباط والجنود العرب الذين أعدموا في الجيش".

وبعد أن أشارت مجلة (اللطائف المصورة) إلى ضرورة "طلب المعونة والوساطة عند الحكومة التركية الاتحادية في تخفيف وطأة البلايا عن الشعب السوري المظلوم بعد أن ذاعت وملأت العالم أخبار سوريا التعسة"، كان ملفتاً أن تخصص المجلة مناشدة خاصة بالتدخل للحكومة الأميركية التي "وقفنا ببابها كما وقفنا بأبواب حكومات سواها نسأل الله تلك الرحمة التي لا يعدمها الحيوان من الإنسان"، متحدثة عن "آمال السوريين في مروءة الشعب الأمريكي لكبيرة اعتبارا بما عرف به هذا الشعب من الديموقراطية السامية المؤسس عليها قانون وشريعة بلاده وبمما أتاه من الاعمال الانسانية في هذه الحرب الكبرى من السعي في تخفيف ويلاتها بارسال البعثات الطبية والمساعدات في سبيل الاحسان فمداواة المرضى ومؤاساة واسعاف المعوزين الجائعين في البلاد المتحاربة".

لم تفرد المجلة التي أسسها الصحفي اللبناني المهاجر إلى مصر إسكندر مكاريوس مساحة لتغطية أخبار ما يحدث في سوريا، لتضع قارئها في الصورة، ربما لأنها اعتمدت على متابعته للأخبار في الصحافة اليومية، ولذلك اكتفت بوصف ما يجري في سوريا كما يلي: "ظلم فظيع مروّع، وضيمٌ وخيمٌ شنيع، يوقظان اليوم نفوساً أبية حرة خفاقة منتفضة في الصدور، وثّابة بأصحابها إلى مقدّر..مجهول. تلك هي نفوسٌ تبكي اخوانها وذويها وتشاهد عن بُعد ـ مقيّدة مغلولة بحكم سياسة أطماع الاولياء وارادة الأقوياء ضعيفة عاجزة بأسباب الظروف والقضاء ـ هتك حماها وأفناء أهلها واخوانها فاضمحلال قوميتها وكيانها. تلك هي نفوس تبيّنت في حوادث هذا الزمن حقيقة المدنية الوحشية المغشّاة بطلاء الرياء الديني المموّهة بالتدليس الحضري الذائب الزائل تحت حرارة شمس الحوادث عن طوية أشعبية لقّافة بل طبيعة وحشية مفترسة لا تفقه غير المصلحة الذاتية والمنفعة الشخصية ولو كان دون اتمامها خراب المعمور وقتل الضعفاء والأبرياء. تلك هي نفوسٌ تشاهد في أهلها وذويها تنفيذ أحكام ذلك المبدأ الوحشي القاضي بوجوب البقاء للاقوى".

يواصل فيليب مخلوف كاتب هذه السطور التعبير عن حزنه الشديد على أحوال سوريا في فقرة تالية قائلاً: "نسائل أنفسنا عند هدأتها عما عسى قد اقترف اخواننا وأهلنا فاستحقوا هذا القصاص الشنيع والعقاب الصارم المخيف بل هذا الافناء القهري الوحشي وهم طول هذه الحرب وقبلها لم يحركوا ساكناً أو يأتوا مذموماً ثم نغالب الظن على أنه ربما كانت بلادنا معترك الجموع وميدان المعامع فأصابها القضاء بما أصاب سواها من البلاد المجتاحة رغبة في أن نوجد لانفسنا في تلك الظنة بعض التعزية والسلوة متكلفين الصبر على خيالتها المؤلمة فنقول تلك هي ويلات الحروب، ولكن.. لا حرباً هناك ولا قتالاً".

ثم حرص فيليب مخلوف في ختام مقاله الذي أفردت له المجلة مساحة كبيرة على أن يذكر السوريين بدعوته إلى اليقظة والبعد عن الفرقة قائلاً: "إخواني أبناء وطني أنتم أيها السوريون: لم تبق لنا الظروف الحاضرة للمجادلات مسوغاً أو متسعاً فاننا اليوم على شفا هوة لا حد لها ولا قرار، هوّة فيها هلاكنا الابدي، فلنستيقظ لها يقظة البصر والبصيرة ولنفقه خطورتها، لنسرع الى التماسك عند مهولتها، فليس يجدي بعد هذا الحد تماسك ولنمد ايدينا بعضنا الى بعض متناصرين متحدين شعوراً ومبدءاً غير ناظرين إلى دين او ملة او مذهب النصير ما دام اخواننا في الوطنية والغرض، متسابقين بنية واحدة الى غرض واحد هو الخلاص من تلك الهوّة التي تسوقنا اليها ارادة الغير (وارادتنا ايضاً لو كنا نفقه) المكيفة بالظروف والاحوال المستمدة منها قوتها لنشترك معاً ولنكن يداً واحدة في مغالبة ومصارعة هذه الظروف والاحوال فنحول دون اتمام تنفيذ هذه الارادة والا حُتّم علينا الهلاك والزوال".

أترك لك التعليق وأكتفي بالحوقلة والحسبنة ولعن روح حافظ ونجله وأنصارهما.

.....

وختاماً مع الفنان العظيم بهجت عثمان:





605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.