هوامش على متن منهار

هوامش على متن منهار

23 ابريل 2019
+ الخط -
ـ عزيزي المواطن: للأسف وبعد كل ما جرى، لا زلت ترفض التسليم بالحقيقة التي قالها ابن خلدون قديماً "الظلم مؤذن بخراب العمران"، وهي حقيقة لا يشترط للتسليم بها أن تكون مثالياً ومترفعاً عن كل من سواك، فتسليمك بها هو قمة الواقعية والعملية والبحث عن المصلحة المباشرة. يعني، كان يمكن أن أتفهم استمرارك في التبرير والتطبيل حتى الآن، إذا كانت مصالحك مرتبطة بمصالح العصابة التي تحكم البلد، لأنك تدرك أن حكم السيسي حين يسقط، ستسقط معه مصلحتك، لكن كيف يمكن أن أفهمك إذا كنت لا زلت تطبل وتبرر، وأنت لست سوى مواطن بسيط مهدد في حياتك ورزقك وأمنك، وستظل مهدداً في كل ذلك، طالما ظلت البلاد محكومة بمن لا تستطيع محاسبتهم، أولئك الذين كلما ارتكبوا كارثة أو جريمة، سيحدثونك عن المؤامرة وتركيع مصر وحروب الجيل الخامس وقائد الأسطول السادس، وبعد أن تصفق لهم وترقص وتفوّض وتبايع، سيزيدون مكافآت ومعيشات وعمولات بعضهم البعض، وسيواصلون تأمين مستقبل أحفاد أحفادهم.

لا أنا من الذين يطلبون منك أن تضحّي بروحك أونطة، ولا من الذين سيفرحون حين تذهب في داهية، حتى لو كنت من الذين فرحوا حين راح خصومهم السياسيون في داهية، كل ما أرجوه منك أن تعطي "أوبشن" التبرير والتأييد بعضاً من الراحة، وبما أنهم لم يصدروا بعد قراراً رسمياً بالقبض على كل من لا ينزل إلى الشوارع للمزيد من التفويض والمبايعة بعد كل كارثة أو مصيبة، فاحترم أحزان من تسببت قرارات هذا النظام في قتلهم وفقدان حريتهم وخراب بيوتهم، وتقرب إلى الله بالشك في الروايات الرسمية، وبالتضامن مع الضحايا ولو بكلمة طيبة، لعل الله ينجيك من عواقب الظلم التي تحدث عنها رجل عاش في هذه البلد وعرفها جيداً، ومع ذلك لم يصدقه أهلها حين قال لهم إن "الظلم مؤذن بخراب العمران".

.....

ـ الاحترام الحقيقي للمرأة لا يكون بأن يضع الرئيس يديه خلف ظهره حين يحدثها، ولا أن يتملقها لكي تسانده في "أعراسه" الانتخابية البائسة، بل في أن يكف يديه كحاكم هو ورجاله عن أذيّتها وإهانتها وتسميم حياتها وتقصير عمرها، فلا تمعن الأيدي في إذلالها لحظة التفتيش وهي تزور زوجها المعتقل، ولا يعود ابنها إليها من الخدمة جثة هامدة دون أن يحاسب من قصّر في تدريبه وتأمينه ومن جعله صيدا سهلا للإرهابيين الذين وعد بالقضاء عليهم فلم يفعل شيئا سوى صناعة المزيد منهم كل يوم.


الاحترام الحقيقي للمرأة ألا يُعبث بجسدها في طقس "احتفالي" مهين يزعم الكشف على عذريتها حين يُزج بها في سجونك، وألا تُحرم حتى من البكاء بصوت عال على ابنها في مشرحة دخلها بعد تعذيبه أو تصفيته للتغطية على جريمة أخرى، وألا تُهدر أبسط حقوقها الآدمية لأنها تعارض الحاكم أو لأن قدرها و"قضاؤه" شاءا أن يكون لها زوج أو ابن أو أخ يعارضه، وألا تتحول خروجاتها إلى السوق لشراء حاجة البيت إلى لحظات سوداء تواجه فيها قهر إحساسها بالفقر وقرب زوال الستر بسبب سياساتك الهوجاء، وألا تتحمل هي وأولادها وأحفادها وأحفادهم عبء ديون تريليونية بفضل صفقات الأسلحة ذات العمولات الطائرة أولا بأول إلى الملاذات الآمنة.

الاحترام الحقيقي للمرأة هو ألا يتم تحويلها إلى اكسسوار سياسي تستغله بالنحنحة والحفلطة حين تريد ادعاء التحضر، وألا يستباح عرضها وسمعتها لدى ضباع التوك شو إن أمرهم بذلك مشغل الأذرعة الإعلامية، وألا يتلقى القضاة بالتليفون أوامر التنكيل بمن تتمنى الأم أو الأخت أو الزوجة أو الابنة رفع الظلم عنهم دون اعتبار لأي قانون أو ضمير أو منطق، الاحترام الحقيقي للمرأة ألا يكون معيار الحكم على كونها مواطنة صالحة تستحق الاحترام هو أن ترقص للنظام أمام لجنة انتخابية أو تسبح بحمد الحاكم في مقالة أو تتغزل بجماله في برنامج أو تعلن رضاها في كل حين عن ظلمه وتواصل تبريرها لفشله في كل شيء إلا مراكمة ثروات معاونيه.

هذا هو الاحترام الحقيقي للمرأة، وما عداه فهو "أدب قرود" كذاب سينتهي تاريخ صلاحيته لزما وحتما، وسيدفع ثمنه الجميع دون استثناء لذكر أو أنثى.

.....

ـ بالطبع لم يكن يمكن أن ينسى عبد الفتاح السيسي كل ما سبق أن قطعه من وعود، وكل ما كان يملأ صوته من حنان وطيبة، وهو يتحدث عن "الشعب الذي لم يجد من يحنو عليه"، فيعلو صوته غاضباً، ويسكن القرف ملامحه وهو يقول للمواطن المطالب بحقوقه "طيب انت غلبان وأنا كمان غلبان"، لو لم يكن السيسي متأكداً من قدرته على البطش بكل من سيسأله عن المليارات التي صرفها على صفقات السلاح، وأهدرها في مشاريع يتفاخر بأنها لم تعتمد على دراسات جدوى، ومن حرصه على التنكيل بكل من يحاول أن يذكّر المثقفين والإعلاميين والسياسيين بتعبير "المسئولية السياسية" الذين كانوا يحبون استخدامه عمال على بطال أيام مبارك وطنطاوي ومرسي، وأصبح الكل يتناساه الآن، لأنهم وسط خناقاتهم وبحثهم عن هدف لتنفيس الغضب، يهربون من مواجهة الحقيقة المرة التي صاغها نجيب محفوظ يوماً ما ببلاغة في عبارته الشهيرة "ما الحيلة؟ أمامنا رجل يدعي الزعامة وبيده مسدس؟"، والتي يزيد في مرارتها وتعقيدها أنها ينبغي أن تصاغ الآن هكذا: "ما الحيلة؟ أمامنا رجل جعلناه يصدق أنه أنقذ مصر، وبيده مسدس؟"

.....

ـ إذا كان هناك من يصنع شيئا مهماً وجاداً في هذه الفترة من تاريخ مصر، فهو أولئك الذين يجيئون بالكلام من الآخر، ويسمون الأشياء بمسمياتها دون تغليفه بكم من الدجل "المتزوّق" التي تجعل السامعين يدمعون من فرط التأثر والوطنية، أتحدث عن أمثال النايبة غادة عجمي التي عبّرت عن جوهر أداء مئات من المثقفين والإعلاميين والكتاب المؤيدين لنظام السيسي، ولكن من غير "زواق شاعري" أو حشوي تنظيري، ولذلك ضايقت الكثير من مؤيدي النظام الحريصين على التجمل حين قالت كلاماً يذكر الناس بحقيقة قبح الواقع الذي اختاروه وأيدوه، كلاماً يشبه كلام رئيس الدولة، تختلط فيه الأوهام بالأكاذيب بالتهديدات في عبارات أصبحت ملحمية منذ أن قالتها في حوارها الشهير مع قناة "فرانس 24" وهي تهاجم الناشطة الفرنسية كلير تالون لأنها انتقدت نظام السيسي، عبارات ستظل معبرة عن خلاصة الفكرة السيساوية الحاكمة لمصر: "مستوى المشاريع اللي في مصر لا تستطيع أي دولة أن تقوم بها، ستظل مصر قوة عظمى ينحني لها الجميع.. مش من حق أي حد يتكلم عن أي جهة سيادية في البلد.. سنظل وراء فخامة الرئيس رضيتم أم لم ترضوا، تقولي مسرحية فيلم... الكلام ده عندك هناك عند مامّا، لكن عندنا احنا بالقوة".

مضت شهور على إذاعة حوار غادة عجمي مع القناة الفرنسية، لكننا لم ننس اسمها ولا رسمها ولا طريقة حديثها، في حين نسينا اسم زميلها السيساوي الآخر الذي شارك في البرنامج، مع أنه أحب أن يجاريها في تأييدها للسيسي، حين رفع صوته قائلاً: "إحنا مصر السيسي ولا نخجل، آه لا نخجل"، معبراً عن أهم ملمح من ملامح أن تظل مؤيداً لنظام السيسي: أن لا تخجل، ولذلك بالتحديد استغنى النظام عن خدمات كثيرين ممن لم يقصروا في خدمته، لأنهم كانوا يتمتعون بنسبة من الخجل، جعلتهم غير لائقين بالمرحلة السيساوية التي صار واجباً لكي تظل موجوداً في ظلها، ألا تخجل، ألا تخجل على الإطلاق.

ولأن كل عصر تعيش منه في نهاية المطاف عبارات مركزية تلخص جوهره، وتكثف طبيعته، سيتذكر التاريخ طويلاً "نايبة الشعب" غادة عجمي، لأنها لم تستطع فقط تلخيص فترة حكم السيسي المديدة، بل ولخصت تاريخ مصر المعاصر من أيام الرئيس عبد الجبار لأيام الرئيس عبد الفتاك في عبارة واحدة، ربما وجدتها يوماً من الأيام تتصدر افتتاحية كتاب مهم يؤرخ لهذه المرحلة من تاريخ مصر: "الكلام ده عندِك هناك، عند مامّاه، لكن عندنا احنا بالقوة".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.