لست وحدك

لست وحدك

21 ابريل 2019
+ الخط -
أنت تشعر بالخجل من الحديث أمام جمهور؛ فتركن إلى الانزواء أو التشاغل؛ أليس كذلك؟! ربما تفعل ذلك متعمدًا أو بشكلٍ غير مقصود، وفي الحالتين النتيجة واحدة؛ يتضخم في نفسك الخوف من الحديث أمام الجمهور، أيّ جمهور، وتتحاشى الظهور في أماكن عامة خشية أن يُطلب منك الحديث..

لا يتعلق الأمر بالدرجة العلمية ولا سعة الاطلاع، وعلى هذه الشاكلة كان إبراهيم عبد القادر المازني؛ فلم يكن لسانه ينطلق من محبسه بين الجمهور، ولم يستطع أن ينسلخ من عباءة هذا الخوف، وعاش حياته بعيدًا عن الصالونات الثقافية والأدبية.

بعد جهد جهيد، استطاع العقاد إقناع صديقه المازني - امتدت صداقهتما أربعين عامًا حتى وفاة المازني - أن يصحبه إلى صالون مي زيادة، وأمطرته زيادة بكلمات الترحيب والثناء، بينما لم يجد المازني جملة مفيدة ينطقها في المجلس، وعندما رجع إلى بيته قرر أن يضاعف من عزلته وأن يتترس بها عن الناس.


بلغت قوة تمكن المازني من الإنكليزية أنه كان يترجم للصحف دون الاستعانة بمسودة، وقد بدأ حياته معلمًا يقف أمام الطلاب في الصفوف، ما يعني أن لديه المهارات الأولية للحديث أمام الجمهور، كما أنه أديب وناقد وشاعر يمتطي قلمًا رشيقًا ويتكئ على قاموس لغوي بديع، وله أسلوب متفرد نحت به شخصيته الفذة بين عمالقة جيله من رجالات الضاد.

لم تشفع كل تلك المؤهلات والمهارات للمازني؛ فلسانه أكثر خجلًا من العذراء في خدرها إذا واجه الجمهور، وليس وحده في هذا المضمار؛ فإن محمود محمد شاكر (أبو فهر) أصابه الداء ذاته، وأمير الشعراء أحمد شوقي أصابه هذا الضُر، وأديب نوبل نجيب محفوظ لم يسلم من هذا السُقم.

ضع أمامك ورقة وقلم، وقارن نفسك بالمازني وشاكر وشوقي ومحفوظ، واجعل مدار المقارنة الحصيلة اللغوية والثقافة العامة وقوة التعبير والتصوير. تدرك من هذه المقارنة أن الثقافة الواسعة ليست الوقود المحفز للحديث أمام الجمهور، وتعلم أن الخوف يسري في فرائص الجميع عندما تشرئب له الأعناق، لكن فئة من الناس تضع خوفها وتوترها في إطار محدد، وهؤلاء يتحدثون أمام الجمهور، بينما يأكل الصمت لسان آخرين.

لو حدث مرة أن نسيت كل الكلام في حضور الناس، ثم انسالت عليك البلاغة والبيان بعد أن فات الميعاد؛ فلا بأس على الإطلاق، وأصدُقُك القول كلنا هذا الرجل، ليست نهاية العالم بأي حال، لكن المهم أن تضع حدًا لذلك التردد، وأن تقف مع نفسك وقفة صادقة وتحثها على التغيير.

ادفع نفسك للحديث أمام الجمهور، قف بينهم ولو لم تكن سحبان وائل، وثق بأن الفنان العظيم كان يومًا فنانًا مغمورًا، وأن تكون اليوم مغمورًا في ساحة الخطابة؛ فإنك إن واصلت ستصبح بعد مدة - طالت أم قصرت - قاب قوسين أو أدنى من خالد بن صفوان، والأحنف بن قيس التميمي، الحجاج بن يوسف الثقفي، وزياد بن أبيه، وديموستين، وميرابو، وتشرشل وغيرهم من أساطين الخطابة.

إن كنت تتصبب عرقًا إذا نودي اسمك للحديث أمام جمهور، أو قبيل تقديم كلمة من سطرين في محفل؛ فلست وحدك في هذا الوجل، سبقك في هذا الدرب آلاف الخطباء، سبقوك قبل أن يشار إليهم بالبنان، وقبل أن يخلع عليهم التاريخ لقب الخطباء المصاقع والمتحدثين البارعين. يزيِّن لك التوتر دخول المنطقة الآمنة وهجر المثابرة، يمكنك وصفه بأحد أنواع حب السلامة "وحُبُّ السلامةِ يُثني عن المعالي ويُغري المرءَ بالكسلِ". "إذا كان الأمر قد نجح مع شخصٍ آخر؛ فإنه سينجح معك إذا ما التزمت الخطوات التي نفذها"؛ فلتثق بنفسك، واعلم أن قوة اعتقادك في نفسك تصنع الفرق.

تابع إن شئت سير المتحدثين التحفيزيين أمثال سيمون سينك، إيريك توماس، ميل روبينز، زيج زيغلر، بريان تريسي، منيبة ميزاري؛ تجدهم -دون استثناء- عانوا الخوف والتوتر من مواجهة الجمهور، لكنهم لم ينكمشوا أو يتقزموا أو يتقنفذوا، بل واجهوا الخوف والتوتر والتردد، واستعملوا تقنية التعامل العكسي مع الخوف، وبدلًا من الانزواء اختاروا المواجهة والمجابهة؛ فنجحوا وأصبحوا أمثلة حية لمن يبحث عن الحديث بثقة أمام الجمهور؛ فاطمئن.. لست وحدك.

دلالات