في مديح الألم

في مديح الألم

02 ابريل 2019
+ الخط -
تتذكر "جو" الآن، بعد الضجة الكبيرة حول حالتها النادرة، أنها بالفعل عاشت عمرها كله ولم تكن تشعر بآلام الجروح والحروق وقت حدوثها، وتستدرك ضاحكة: ربما فقط نبهتني رائحة الدخان أو صوت طقطقة لحم يحترق، فأنظر لأجده ذراعي!

كما تتذكر بمرح أنها طالما تناولت فلفل البونيت الإسكتلندي الحار بكل ارتياح، فيما كان يسبب مجرد تذوقه هياجا حسيا مريعا للجميع. ويسجل أطباؤها بذهول أنها بالفعل لم تكن تشعر بآلام التهابات المفاصل الحادة أعلى فخذيها، وحتى عندما أجريت لها جراحتان دقيقتان لتغيير المفاصل، لم تحتج إلى أي عقاقير مسكنة عقب أي منهما.

ومما أثار المزيد من الدهشة أن جسد السيدة الاسكتلندية السبعينية أظهر سرعة فائقة في شفاء الجروح دون أن تترك ندوبا تذكر.


إلى هنا تبدو حالة "جو كاميرون" كنزا حقيقيا لأطباء التخدير ومكافحة الألم والباحثين في مجال الجينات الوراثية، حيث تكشف لهم أن السيدة تتمتع بطفرة في أحد جينات الأعصاب المسؤولة عن الإحساس بالألم.

وبدا للجميع أن طفرتها الجينية ستكون بمثابة هدية للبشرية، إذ سيساهم بحثها وتحليلها في التوصل لصيغ جينية لبشر لا يتعرضون للآلام الصعبة عقب الجراحات، ولا يحتاجون لتعاطي مسكنات الألم ليل نهار، ولا ينتظرون طويلا لكي تلتئم جروحهم بعد الحوادث والعمليات، فسيحدث ذلك بسرعة كبيرة وبلا ندبات.

نتيجة مدهشة طبعا أليس كذلك؟
بالتأكيد.. فبرغم حاجتنا للألم الحسي كأداة تنبيه فاعلة لدرء الخطر ومكافحة المرض قبل استفحاله، يبدو الأمر مغريا جدا..

أقول لنفسي: ربما تمكنوا من تحويل الآلام الجسدية الحادة لذبذبات ضوئية مثلا فيكفونا بها أوجاع الأسنان والصداع والجهاز الهضمي.. ولله درهم لو هونوا علينا آلام الحمل والولادة!

لكن هذا ليس كل شيء..
المثير للتأمل حقا أنهم وجدوا أنه بجانب عدم الشعور بالألم الحِسي، وسرعة التئام الجروح، فإن الطفرة الجينية للسيدة المسنة شملت أيضا الذاكرة والقلق والحالة المزاجية! فهي كثيرة النسيان طوال عمرها، وقد سجلت صفرا في اختبارات التوتر والإحباط والاكتئاب والفزع. ووجدوا أنها لا تضطرب ولا تخاف في أكثر المواقف الضاغطة نفسيا كتعرضها لحادث سيارة كبير مثلا!

أقرأ وأفكر:
وهل بعد أن عرفوا ذلك سيسعون بلهفة لتطوير إنسان يفتقد القدرة على الألم والقلق والاضطراب واستدعاء جُل الذكريات؟!

ويحهم!
إن الإنسان بلا حزن هو ذكرى إنسان كما يقول نزار!
وهل يخفف وطأنا على هذه الأرض سوى الألم والحزن وشجن الذكريات؟ وهل يصفع كبرياءنا وغرورنا المضحك سوى وخز الآلام؟ وهل يكف أذانا عن البشر والحجر إلا الوجع والوهن والقلق والخوف؟ وهل يهين الدنيا في عيوننا إلا ضعفنا المفضوح أمام مستصغر الوصب والنصب؟ وهل يخفف قبضتنا على الحياة سوى ذكرى الهزائم والانكسارات وخفوت الرجاء؟

وهل..
وهل يقربنا من الله غير نشيج الأحزان؟!

وأجدني أفكر..
ليتهم والله يتركونها حالة فريدة بين بني البشر..ويتركوننا آدميين بأسباب وجيهة للخضوع والخشوع والتواضع وزهد الدنيا ومغادرتها ببساطة. ليتهم والله لا يعبثون فيسعون لجعلنا وحوشا كاسرة بلا شعور بوهم الحياة الكاملة بلا منغصات.. وهي لو يعلمون جحيم مقيم.

6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى