يوم كرهت البشير

يوم كرهت البشير

16 ابريل 2019
+ الخط -
في أكتوبر من عام 2008 زرت العاصمة السودانية الخرطوم لمدة خمسة أيام للمشاركة في مؤتمر اقتصادي عقد تحت رعاية عمر البشير رئيس الجمهورية آنذاك، في هذه الزيارة التقيت بالبشير مرتين وجهاً لوجه، الأولى خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر التي عقدت بمقر رئاسة الجمهورية، والثانية كانت في فندق هيلتون الخرطوم حيث كنت أقيم.

في المرتين لم أخفِ إعجابي بالبشير، ففي اليوم الأول لاحظت أن إجراءات الدخول لمقر المؤتمر كانت سلسلة وبسيطة على عكس المؤتمرات الأخرى التي كنت أشارك بها في دول عربية أخرى ويحضرها قادة رؤساء، وجدت حفاوة من قبل الحضور بالرئيس السوداني الذي كان يتحرك داخل أروقة المؤتمر بلا تعقيدات ومضايقات، ولا أفراد أمن مدججين بالأسلحة، ولا كاميرات تلاحقه أينما تحرك أو نظر أو صرح أو سكت، كان اللافت أيضاً أنه إذا أراد شخص مغادرة القاعة خلال كلمة البشير فلا يوجد ما يمنعه خلافاً للبروتوكولات الرئاسية المعمول بها في المنطقة، وأنه خلال كلمة البشير كان عدد من الحضور الذين يرتدون اللباس السوداني الأبيض يردون عليه من حين لآخر بكلمة الله أكبر.

وفي اليوم الثاني، وبينما كنت أستعد للصعود للغرفة بالفندق الذي أقيم به وجدت البشير وجهاً لوجه وهو يخرج من مصعد الفندق، قبلها طلب مني شخص يرتدي ملابس مدنية الابتعاد للخلف بعض الخطوات، أو الوقوف على يمين أو يسار المصعد، رفضت لأنني لم أجد سبباً منطقياً لطلبه.


ومع إصراري على معرفة السبب تركني لحالي، وبينا أنا أكرر السؤال على هذا الشخص خرج البشير وفي يده عصاه المعروفة، وجدت نفسي أنا ورئيس الجمهورية وجهاً لوجه، لا يفصلنا سوى خطوات، رجعت للخلف بظهري لأرى ماذا سيحدث، فإذا بالبشير يحيي موظفي الفندق ويشير لهم بتحيتهم المعروفة، رافعاً عصاه والحضور يرددون خلفه الله أكبر، كما لفتت نظري تحيته الخاصة لعاملات النظافة في الفندق.

واصلت متابعة المشهد، البشير يخرج من الفندق نحو موكبه، سرت خلفه حتى أشاهد أسطول السيارات الرئاسي من سيارات خاصة ومدرعات وأجهزة الكشف عن المفرقعات وسيارات الحرس الجمهوري و"الموتوسيكلات" وعربات الإسعاف، صدمت بما شاهدت، الموكب الرئاسي عبارة عن 4 سيارات، منها اثنتان مرسيدس استقل البشير إحداهما، وسيارة ثالثة لا أتذكر ماركتها، وسيارة شرطة، و"موتوسيكلان" سارا أمامه.. كانت كل سيارات الأسطول زرقاء اللون.

زاد إعجابي بشخصية البشير، خاصة مع البساطة التي كان يتسم بها موكبه وسلاسة تعامله مع مواطنيه، وسألت ساعتها نفسي: "هل هذا يرأس بلداً يخوض حروباً على عدة جبهات، خاصة في الجنوب؟".. وقلت لشخص يقف بجواري إنه من المفروض أن يتم تشديد الإجراءات الأمنية على الرئيس، فربما يكون مستهدفاً من جماعات مسلحة تخوض حرباً مع الدولة، سواء في جوبا أو دارفور.

لكن ما حدث بعد ذلك دفعني إلى تغيير موقفي من الرجل، فأول مشكلة واجهتها هي تخلف الصناعة المصرفية وقطاع البنوك بالبلاد، إذ لا ماكينات للصرف الآلي ATM، ولا قبول لبطاقات الائتمان في سداد مستحقات الفندق، قلت: "ربما حالة الحروب التي تخوضها الدولة عطلت تطوير القطاع المصرفي".

سرت في شوارع الخرطوم، فوجدت دولة منهارة من ناحية البنية التحتية، طرق مكسرة وبها حفر، شوارع رئيسية ليس بها أعمدة إنارة أو شبكات صرف صحي، أناس يتحدثون عن أزمة في الكهرباء ومياه الشرب، ارتفاعات في الأسعار واختفاء لسلع رئيسية، عصا الأمن القوية تطول المدافعين عن حقوق الإنسان والمطالبين بحرية الرأي والإعلام.

في اليوم الثالث ذهبت إلى أم درمان، إذ نصحني صديق بالذهاب إلى أسواقها حيث منتجات الجلود والأحذية والعصي المتميزة، صدمت عندما انتقلت إلى أم درمان الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة، سودانيون يعيشون في القرون الوسطى، بل في العصور البدائية، فلا صرف صحياً ولا مياه شرب، ومياه الأمطار تغرق الشوارع، وبرك المياه العفنة منتشرة على طول الطريق، لا إشارات مرور بل فوضى في وسائل النقل، وكانت صدمتي حين وجدت أن بعض المارة لا يرتدون حتى أحذية في أقدامهم.

جلست أستمع إلى مآسي السودانيين، بلد يعوم على خيرات نهر النيل، وعلى ثروات تعدينية ونفط وذهب، ورغم ذلك توجد أزمات في الدقيق ورغيف الخبز، بلد زراعي يمتلك مساحات شاسعة من الأراضي تقدر بنحو 41.8 مليون فدان، من الأراضي المروية، ورغم ذلك يعاني شبابه من البطالة وشعبه من الجوع والفقر والعوز.

دولة لديها 5 ملايين مغترب في الخارج يحولون مليارات الدولارات سنوياً لذويهم في الداخل، ورغم ذلك تواجه البلاد ندرة في النقد الأجنبي عند سداد الديون الخارجية أو شراء سلع وسيطة وقطع غيار. نظام يقتل شعبه ويدفع أهل الجنوب للانفصال بسبب ممارساته القمعة ضدهم.

كذلك سمعت روايات عن الفساد المالي داخل الأجهزة الأمنية، وكيف أن النافذين في هذه الأجهزة تحولوا إلى مليونيرات في غضون سنوات قليلة.

ساعتها تغيرت صورتي الذهنية عن عمر البشير ذلك المستبد الذي يمارس الديكتاتورية في أبشع صورها رغم زعمه طوال ما يقرب من 30 عاماً أنه يحكم باسم الإسلام، وكلما زرت السودان من وقت لآخر زاد حنقي على الرجل الذي أدت سياساته إلى انفصال جوب السودان عن شماله، كما فشل في تحقيق أي تنمية اقتصادية لبلاده، أو تحسين المستوى المعيشي للمواطن.
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".