الغرف السوداء... توازن الرعب بين منظومتين

الغرف السوداء... توازن الرعب بين منظومتين

10 ابريل 2019
+ الخط -
أنت مواطن صالح في دولة تحترم القانون وتدعو إلى علويته.. وطنيّ حتى النخاع، تحبّ وطنك وتضحّي من أجله بالغالي والنفيس. تمجّده وتدعو إلى نصرة قضاياه.. ربّما حكّامه أيضا عادلون ينشدون الحق بين الناس.. مفهوم أنموذجيّ لدولة وطنيّة يحلم بتأسيسها كل بشري على هذه الأرض..

كلّا أنت مخطئ وتجانب الواقع.. السلطة الحقيقية في هذا العالم أبعد من أن تكون في يد حكّام الدّول أو رؤساء حكوماتها.. الأوطان الرّقعية تلك المسيّجة بحدود قانونية لا تعدو أن تكون مجرد إقطاعات يعيش على أديمها شعب يتغنّى بقوميّته في حين أنّ المسالة برمّتها أعمق بكثير من هذا التعريف الضيّق..

لم يعد مفهوم الدولة الوطنية كما كان في السابق، ربّما في الستّينيات أو السبعينيات، حيث كان حكام بعض الدول يحثّون الخطو من أجل زرع مفهوم الوطنية في عقول شعوبهم.. نحن في عهد اندثار الدول الوطنية لصالح الدولة الكونية.. إما أن تكون كونيّا بشروطهم أو أن تيّار العولمة سيجرف ما بقي منك.

انتهى وقت السلطة في يد حكام الدول الوطنية.. نحن نعيش عهد حكم الغرف السوداء العالمية.. تلك الغرف المظلمة التي تختفي وراء ظلال التجارة العالمية.


في الماضي كنّا نسمع عن جماعة البنّائين الأحرار أو الماسونية العالمية والخرافات التي تستبع الحديث عنها.. اليوم تغيّر الشأن تماما وأصبح الحديث عن جماعة التجّار الأحرار free traders أو liberal traders. هؤلاء الذين استهلّوا بداية القرن الأوّل من الألفية الثالثة بمزيد من السيطرة على القطاع النفطي في العالم من خلال مجموعة شركات "السبع أخوات" seven sisters، بسطوا سلطتهم تقريبا على جلّ الدول التي استقلت أوائل الخمسينية الثانية من القرن العشرين والتي تملك مخزونا معتبرا من النفط والغاز.. إنّها مجموعات دولية غير حكوميّة ولا علاقة لها بالمفاهيم الوطنية للدول، تحكم العالم من خلف الستائر، تملك القرار السياسي العالمي، وتعضدها في ذلك سيطرتهم على رؤوس الأموال العالمية. فهم يملكون كل شيء من حولك، بدءاً من وسائل الاتصالات والميديا، حتى البترول والسلاح والبنوك. يملكون كل شيء، ربّما حتى الهواء الذي تتنفّسه يمكنهم تلويثه وخنقك متى شاؤوا وكيف شاؤوا وحيث شاؤوا..

إنّ الذي يدعونا إلى الخوف والشك والريبة في هذه المجموعات المسيطرة أنّها تتنامى وتتطور وتتحوّل كلّما دعت الحاجة إلى ذلك وبسلاسة عجيبة دون الحاجة إلى عمليّات ولادة قيصريّة جديدة. فإن اتخذت يوما ما شكل seven sisters القديم المتمثل في شركات إنرون وأوسو وتوتال وشيفرون وتكساكو وموبيل وجولف أويل في الحقبة الماضية، تأكّد أنّها لن تعوزها المقدرة على التحول من شكلها القديم إلى شكل جديد للسبع أخوات من خلال صعود شركات أخرى تلعب الدور نفسه بالجدية نفسها وبالنتيجة، مثل أرامكو والصينية للبترول وبتروناس ماليزيا وغاز بروم والشركة الإيرانية وبتروبريس البرازيل.. لا مشكلة لأصحاب هذه الغرف السوداء في تغيير الشكل متى استدعى الأمر ذلك، المهم أن الأموال تتدفّق إلى حساباتهم ولا تتوقّف مطلقا.

العشريّة الثانية من القرن الأول للألفية الثالثة تشهد بداية صراع محتدم آخر أشعلته تلك الغرف السوداء نفسها لقناعة راسخة لدى مرتاديها أن ما دام العالم يعوزه الاستقرار، فإن حاجة الدّول للجوء إليها مستمرة وفي نموّ أكبر..

حرب أخرى على الأبواب تأخذ شكل تجارة النّقل الجوي والبحري في العالم.. هذه المرّة الغرفة تعمل بكلّ جهد ممكن لتقليص الهيمنة القطرية والتركية والماليزية والإندونيسية والماليزية على الأسطول البحري التجاري العالمي من خلال السّعي إلى "تسوّغ" أغلب الموانئ الكبرى والاستراتيجية في العالم، فلا تكفّ شركة موانئ دبي العالمية عن التهام المنصّات الوطنية البحرية في كل الدول، كالجزائر وليبيا وجيبوتي والصومال وإريتيريا واليمن وغيرها، ليس بغاية التطوير والتنمية، بل الأمر كلّه من أجل تضييق مجال تحرّك هذه الأساطيل التي تنقل لمختلف دول العالم السلع الضرورية وحتى الكماليات.

لم يقتصر الأمر فقط على تجارة النقل البحري، بل امتدّ الأمر أيضا إلى تجارة النّقل الجوي العالمي، حيث تصدّرت شركات الخطوط الجوية القطرية والتركية والإندونيسة والماليزية والإثيوبية والسنغافورية الترتيب العالمي في جودة الخدمات وأخلاقيات المهنة، وكذلك لتنوّع الخطوط المقصودة، في منافسة واضحة لمحور ثان يجمع الخطوط الجوية السعودية والإماراتية والمصرية...

هذا المحور التجأ إلى الاستراتيجية نفسها للتضييق على مساحة تحرّك الشركات الجوية المنافسة من خلال تسوّغ إسداء الخدمات للعديد من مطارات العالم لمدد طويلة حتى يتمكّن من التضييق على النقل الجوي لتلك الشركات.

لم يعد الأمر خافيا أبدا على العديد من الملاحظين أنّ حصار دولة قطر لم تكن غايته أبدا ضرب الجبهة الداخلية وحدها فقط، بل أكثر من ذلك إسقاط منظومة كاملة تشهد تطوّرا سريعا ومضطردا أصبح يهدد عروش تلك المنظومة المنافسة والتي عمّرت أخيرا أغلب الغرف السوداء في العالم من أجل تلك الغاية لا أكثر.

الأمر أشد تعقيدا مما يمكن أن يتخيله بشر، ويحتاج إلى دقة في سرد المعلومة وتراتبية عالية حتى لا يضيع التسلسل الزمني والفعلي للأحداث التي يشهدها عالمنا اليوم. إن مجرّد التذرّع بـ"لكلوكة" الاختلاف الإيديولوجي بين قطبي الصراع المحتدم اليوم بين محور قطر تركيا من جهة ومحور الإمارات والسعودية من جهة أخرى، وما الرئيس الأميركي ترامب إلا مجرّد خادم خفي لأحد المحورين ينوب عنه في تلك الغرف المظلمة ويدعم تطلّعاته ومصالحه لتصبح أميركا في ظلّه الدولة الراعية لتوحّش وتسلط العائلات المالكة في تلك الدول على حساب إعلاء منظومة حقوق الإنسان التي كان حكّام أميركا يتشدّقون بها سابقا.. ليست أميركا اليوم إلا وجها خفيا وقبيحا ومتوحشا لتلك الغرف السوداء التي تحكم رقاب الشعوب وتدني مصالح منظوريها على حساب المبادئ التي قام على أساسها اتحادها.