فرويد والتعري... وأشياء أخرى

فرويد والتعري... وأشياء أخرى

04 مارس 2019
+ الخط -
(1)

يلف الصباح شال البرودة الذي يجبر من استيقظ في تلك الآونة أن يرتدي "الدولاب كله"، هكذا كانت تصف الست أم خليل دائما هذه اللحظات بعد كل فجر يمر فيتيح مكاناً للنهار الذي يدخل الكون بدون استئذان.

لذلك كانت تستعد له بكل ثقيل من الصوف، وخاصة أننا كنا في نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وكانت على هذا الحال يومياً توقظها همسات الفجر التي تداعب وجنتيها فتقوم لترتشف بعضا من رياحين القهوة فتلامس رائحة البن أهداب أنفها وهي ترمي بنظرها على كل من راح وجاء من بلكونة بيتها الذي تميل وجهته للون الأصفر، وجداول الماء تنسكب بين طوب حوائطه، تشم رائحة الذكريات، تحاول الهرب من شقوق جدران المبنى لكنها تظل مقيدة في وقاحة الواقع.

البيت وخاصة حجرة أم خليل تطل على معمار يكتظ بالشقق المفروشة، فلم يكن حل متاح لاستقرار لكنها كانت شقق سفاري يسكنها الطلبة أحيانا أو المهندسون ممن يعملون عن قرب، ثم يرحلون، لذا مر عليها الكثير ورأت من الوجوه ما لا يسمح الزمن بتذكره، كانت تقضي الصباح تلاحق فيه ما يحمله من الثواني لكي لا يفوتها شيء مما يحدث في الشارع أو ما يقوم به الناس في نواحي الحي.

تدق الساعة التاسعة وتأتي ابنة أختها قبل أن تذهب للجامعة، هذه الفتاة الممشوقة القوام، رفيعة السيقان، تتلفع بالسترة السمراء التي ترسم نفور نهديها، تبدو عليها الحيرة دائما، كمراهقة مشتتة الأفكار، على أية حال تصفع الباب برقة لا تدل أبداً على أن هاتين اليدين مسّهما الشقاء.

تحتضن الست أم خليل فنجان القهوة لترمي آخر قطراته بجوفها، ثم تنهض لتخفف من روع الباب الذي يُصفع، فلا أحد يخلصه من هذا العذاب سوى أم خليل التي تعيش بدون خليل.


تدخل لمياء، الحسناء بنت العشرين، لترمم ما تبقى من آثار علاقة الأهل فتحتضن خالتها وهي تمتعض. جاءت كعادتها كل شهر لتأخذ الجمعية. تتحرك الخالة كمومياء تتراقص، تقدم رجلا وتؤخر أخرى، ترتجف ليس من وهن العمر ولكنها رعشة ونبرة يصدرها الجسم يعرفها من يقبل على دفع دوره في الجمعية.

تنتقل لمياء للبلكونة لترمي عنها وطأة حرارة اللقاء، وتقوم بدور خالتها هذا الصباح في اختلاس النظرات على كل من راح وجاء.

.....

- "أعرف حكااياااات ملياانة آهاااات ودموع وآنين، والعااشقين دااابوا.. ما تاااابوا"..". الراديو يتجلى بتلك الكلمات ويقع أثرها في نفس كمال وهو يعلق قميصه على الشماعة كمن يعلق خيبته، بعدما انتهى يومه بانتهاء فطوره أمام الجامعة التي يفكر دائما في دخولها، لكن هذه الهواجس والاضطرابات تحرقها سيجارة يتقاسهما مع رفيقه الذي يفكر أيضاً في دخولها، لكن مبدأه "الأعمال بالنيات"..

يبسط كمال جسده لبعض ثوان معها يوزع ترهلاته على فراشه ويبسط معه الذكريات فيقول: "آآآآه لو الواحد كان دخل كلية طب ولا هندسة كان وقع نص بنات الدفعة بدل الكلية اللي عايزة الحرق دي.. قال سيادة المستشار قال.. ههه سيادة المتر..".

ثم توخزه مرارة الواقع فيعود من رحلته لكي يعلق ما تبقى من ملابسه على الشماعة، والرياح ينفض صقيعها بأرجاء الحجرة، يزيح كمال عنه كل ملابسه، داخلها وخارجها، ثم يبدء سباق السرعة الذي يفتش فيه عما يرتديه وهو يلف كما ولدته أمه، كان هناك من يتلصص عليه وهي الآنسة لمياء تراقب كل تصرفاته وحركات ترهلاته وهو يغوص بها يمينا ويساراً، تتابعه ونظراتها لا تبدو عليها أنها المرة الأولى التي ترى فيها رجلاً عارياً إنما نظرات تكتسيها التجربة!

تمس صاحبنا برودة الجو وتلفحه برودة نظرات لمياء، فما أن يأتي ليهرب من جو الصقيع الذي يبرد الحجرة فيغلق نافذتها فيلتقي بنظرات الصقيع التي تلهب أجواء جسده فيسرع ويغلقه مضطرا، بعدما رمت لمياء ما في جعبتها من نظرات وابتسامات تكمن فيها السخرية ويظهر منها إليه إعجاب بالتعرية.

يختلط شعور كمال، إحراج بهاجس الخوف مع نكهة الجرأة والإعجاب بالنفس الذي ينتهي بنزعة دينية، اختلاط يصادفه كل مراهق يفرغ مثانته ثم يخشى العذاب فيتوب وبعدها يعود.

وقع ما حدث في نفسه وانصرف يفكر فيه طيلة اليوم وتجولت في خاطره أسئلة ليس لها جواب، وأفكار تتزاحم في رأسه حتى أوشك على الانفجار من تلك الفتاة الفاتنة التي رأته في الصباح؟ هل هي ساكنة جديدة بالمبنى المقابل، من هي، ومن تكون؟.. ثم تعيد أم كلثوم وصلة أغنيتها وتقول:
"فاات من عمري سنيين وسنيين شفت كتير وقليل عاااشقين
اللي بيشكي حاله لحاله واللي بيبكي على مواااله"

ويلقي كمال مواله في أحلامه وينام..

(2)

كالمعتاد راح كمال للجامعة، كناية عن مطعم الفول الذي يلاقي فيه رفيق سندوتش الفلافل الأستاذ راتب الذي يصغي لكل ما يُقال له بمبدأ "اسمع أكتر ما بتتكلم"، فالأستاذ راتب صاحب بمبادئ ولا يمكن أن يخالفها، يستمع بدقة للخيال الذي ينسجه كمال بالواقع، فيسرد تفاصيل البارحة كما حدثت له.. فيرد الأستاذ راتب:

"- بقا هي وقفت تشوفك وأنت عريان؟!
- وأنت شاورت لها وهي ضحكت وفضلت عينيها عليك؟!
- أيوا زي ما قولتلك بالظبط، دا غير إنها كانت بتكلمني بصوت واطي على إنها مستعدة تقابلني.
- أمك دعيالك يا واد يا كمال، متنساش أخوك.
- هييييح، أنا ممكن ارتبط بس أنا اللي برفض، مش عايز أحكيلك تتصدم..".. قالها وهو يميل برأسه للوراء ويستمع لطرقعة الكرسي.

وانتهى الفطور المتكرر، وانطلق كمال ولمياء، الفتاة ممشوقة القوام، تجري في أفكاره وهو يجري للبيت لكي يلحقها في موعدها الذي صادفها فيه في البلكونة.

بدأ كمال في ما انتهى به أمس، ثم اتجه نحو النافذة لفتحها فإذا به يلاقي أم خليل تتطلع على من في الشارع، ولكن الغريب في الأمر أنه لم يغلق النافذة ولم يتوارَ وراءها بل أطال فترة المشهد وظل واقفا، ووقع نظر أم خليل عليه، شتمته ونهضت وهي تلم كوب القهوة وتدخل. 

وحيث إن لمياء لم تأت ولم تنظره، فاستطاع أن يتقن بناء الوهم الذي يعيش فيه!..
في اليوم التالي كان الفطور مع راتب له نكهته الخاصة، فاليوم استفاض وأخرج كل خفاياه.. حكى له عن انتظار الفاتنة ممشوقة القوام له في الموعد نفسه وعن انفعالاتها وانتشائها حين رأته في المرة الثانية على حالته، وظل اليوم يتبع أخاه والموقف ذاته يتكرر، ويستمر كمال في أن يروي عن لمياء التي لم تأت مرة أخرى ولم تزره في البيت ولم تفكر فيه للحظة.

لكنه ظل يحكي عنها بعدما نسج خياله لمياء أخرى تأتيه خلسة في خاطره، لكن يحوله لواقع يرميه في مسامع الأستاذ راتب، وظل كمال كل صباح يتعرى، وانتهى شهر نوفمبر، واقترب شهر ديسمبر/كانون الأول من أن يمضي، لكنه لا يشعر بأي برد ولا يلتمس من أم خليل سوى نظرات احتقار ومصمصة شفايف على الشباب النذل وهي ترتشف بعض القهوة كعادتها كل صباح، لكنها لم تفكر ولو مرة بأن تأخذ قهوتها في حجرتها وتحرم نفسها من هذا المنظر.

لم يفكر كمال بأن يتوقف عما يفعله ولم يعقل لحظة بأن هذه الفتاة العشرينيو لن تأتي، لكنه سأل وعرف بأن لمياء ابنة أخت أم خليل تذهب إليها كل شهر لكي تأخذ منها الجمعية، فظل منتظرا اليوم نفسه في الشهر الآخر، انتظرها صباح يوم الأربعاء ولم تأت لمياء، وظل كمال يتعرى يرجو عودتها وبقيت الخالة ترتشف القهوة في البلكونة تنظر إليه وتلعنه وتسب اليوم الذي جاء فيه، وهو ينظر للبلكونة ويتذكر ابتسامتها عندما رأته عاريا وهو لم يتعمد ذلك ومن يومها ظل يتعمد أن يتعرى لكي تراه، ولم تأت.

عرفت القصة كلها عندما قالها لي عم فوزي، سمسار الشقق الذي أسكن كمال في الشقة، بعدما عرف عم فوزي كل تفاصيل القصة من الأستاذ راتب رفيق الفلافل، وأدركت أن فرويد كان محقا بوجود ما يسمى عقدة الاستعراء لكني تيقنت من أن "عقدة الاستعراء" هذه لا تنطبق على تعري الجسد فقط، وما يحدث من متعة حينما ينظر أحدهم إليك عارياً.

لكن حال كمال ينطبق على كثيرين في المجتمع الذين يتعرون من أنفسهم ويكشفون عن قبحهم وهشاشة ما في نفوسهم وكأنهم يستمتعون حينما يدركون بأن من عرفهم قد أدرك أنهم أسوأ من لفظه العالم..!

دلالات

A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.