عن "مسيرة العودة" في العام الأول

عن "مسيرة العودة" في العام الأول

31 مارس 2019
+ الخط -

يملك الشعب الفلسطيني محطات نضالية كثيرة، وربما يكون الشعب الوحيد من يملك في كل يوم من السنة مناسبة معينة. هذا طبيعي، خصوصاً أن نضاله مستمر منذ أكثر من سبعين عاماً ويكاد لا يمر يوم من دون خبر استشهاد أو جرح، أسر أو إبعاد، تدمير بيت أو عملية فدائية. ولذلك كان إضراب 30 مارس/ آذار 1976 امتداداً لنضال طويل، وما ميزه أنه كان في الأراضي المحتلة عام 1948، واستشهد خلال المواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي 6 فلسطينيين. وتخلد هذا اليوم ذكرى لوحدة الأرض والشعب، وتأكيداً على منع مصادرة الجغرافيا الفلسطينية. ولعل اختيار الشباب في غزة لـ"يوم الأرض" ليكون بدء "مسيرة العودة وكسر الحصار"، فرصة لإعادة الذاكرة إلى الإجماع الوطني عبر تظاهرات سلمية عند السياج الفاصل بين الأراضي المحتلة والمحررة.

فاتورة مرتفعة


رفع المنظمون شعار العودة للمسيرات الشعبية في 30 مارس/ آذار العام الماضي، تزامناً مع الذكرى الـ42 لـ"يوم الأرض". صحيح أن حق العودة مطلب جماهيري وهدف سامي، لكن اكتشفت هيئة تنسيق التظاهرات أن الهدف الكبير أي العودة إلى الديار الأصلية، يحتمل ألا يتحقق عبر المسيرات السلمية، لذلك تم تعديل عنوان الفعاليات ليضاف إليها كسر الحصار، وهذا الهدف يحتمل أن يحدث ولا سيما مع التدخلات الدولية والإقليمية. استخدم الفلسطينيون خلالها أساليب عدّة منها الطائرات الورقية والبالونات الحارقة والزجاج العاكس وغيرها للتشويش على قوات الاحتلال، واعتبرت صحف عالمية أن ما يحصل عمل إبداعي، وكسبت التظاهرات تعاطفاً كبيراً خصوصاً مع استشهاد 266 فلسطينياً من كلا الجنسين منهم 50 طفلاً، وإصابة 30398 إصابة مختلفة منها 16027 إصابة تم تحويلها للمستشفيات، حسب وزارة الصحّة الفلسطينية. وشكلت مشاركة المرأة الفلسطينية عاملاً بارزاً في نجاح المسيرات واستشهدت 6 إناث. حاولت إسرائيل إخماد التظاهرات عبر تعمّد القتل أو بتر أطراف المتظاهرين، بإطلاقها أعيرة نارية محرمة دولياً مثل الرصاص المتفجر و"رصاصة الفراشة". وتقول وزارة الصحة إن 6857 شخصاً أصيبوا بالرصاص الحي، أما حالات بتر الأطراف فكانت 136 حالة. ولم تستثنَ الطواقم الطبّية من آلة القتل الإسرائيلية، فاستشهد ثلاثة مسعفين هم: موسى بو حسنين، رزان النجار، وعبد الله القططي، وتضررت أكثر من 112 سيارة إسعاف. وكذلك استهدف الاحتلال الصحافيين، فاستشهد ياسر مرتجى وأحمد أبو حسين، وأصيب 347 صحافياً.

إنجازات هامة


استطاعت "مسيرة العودة وكسر الحصار" المستمرة، تقديم الاحتلال للمجتمع الدولي على أنه دولة إرهاب وقادته مجرمو حرب، وإن لم يستطع القانون الدولي حماية المتظاهرين، إلا أن الاحتلال أجبر على فتح أكثر من تحقيق في قتل بعض المتظاهرين، ولعل إدانات المؤسسات الحقوقية والدولية لطخت سمعة إسرائيل التي تحاول دوماً تقديم نفسها على أنها ضحية "الإرهاب الفلسطيني"، وكان تقرير لجنة الأمم المتحدة، الذي أشار إلى ارتكاب جنود الاحتلال جرائم حرب بحق المتظاهرين، صفعة قوية على المستوى القانوني والإنساني. وتمكنت "مسيرة العودة" من إعادة القضية الفلسطينية إلى مكانتها والصدارة الدولية، كما أعادت الصراع والاعتبار لحق العودة إلى سابق عهده. وكان للمسيرات فائدة تثبيت نوع من الوحدة الوطنية التي تحققت بمشاركة القوى الفلسطينية كافة. في مقابل ذلك، أثبت الفلسطينيون أنهم شعب حي وخصوصاً مع استمرار التظاهرات عبر الحشود الهائلة، والإبداعات التي استخدمت أساليب جديدة وفريدة أربكت الاحتلال، لأنه لم يعرف كيفية صدّها، فكيف يواجه الطائرات الورقية؟ مع أنه يمتلك طائرة أف 35؟ وكيف يمنع دخان "الكوتشوك"؟ عجز الاحتلال عن حل شيفرات الحراك السلمي، فحاول أن يقدم جزرة بعض التسهيلات لتوقف التظاهرات، لكنها لم تتوقف. ويدرك الفلسطينيون أن "مسيرة العودة" استطاعت أن تواجه مشروع التطبيع مع الاحتلال وخطوات تصفية القضية عبر ما يرشح من "صفقة القرن".

نقل التجربة

يظهر جلياً أن النضال الفلسطيني خطوات تراكمية، لكن ما يميز "مسيرات العودة" أنها استمرت في مواعيدها أي كل جمعة في نهاية الأسبوع. وسبق إنجازات غزة بتظاهراتها، مسيرات العودة إلى فلسطين أو كما سماها البعض "الانتفاضة الفلسطينية الثالثة عند الحدود اللبنانية والسورية عام 2011. اختار حينها المنظمون عبر "فيسبوك" ذكرى النكبة في 15 مايو/ أيار لزحف الجماهير إلى الحدود مع فلسطين في لبنان وسورية والأردن ومصر. كان يوماً دموياً، واستخدم الاحتلال الرصاص الحي والمدفعية في منع المتظاهرين من الوصول إلى الحدود، وتكرر المشهد في ذكرى النكسة (5 يونيو/ حزيران) من العام نفسه. منعت الدول المستضيفة للاجئين تنفيذ محاولة جديدة، لكن تجربة "معركة الكاميرات والبوابات الإلكترونية" في القدس يوليو/ تموز 2017، ونجاح التظاهرات في إرغام الاحتلال على نزع البوابات والكاميرات التي وضعها عند المسجد الأقصى، أعطت زحماً أن هذه الأساليب ممكن أن تنجح. وهذا تكرر قبل أسابيع في استعادة فتح "باب الرحمة" في القدس.

خسر الاحتلال رهان إفشال "مسيرة العودة" مع مرور الوقت واستمرار الفعاليات مع عدم وضع سقف زمني. وتؤكد الوفود الإقليمية والدولية الزائرة لغزة، أن الاحتلال في معضلة وطالب عبر وسطاء إبعاد المتظاهرين عن السياج الفاصل ووقف الفعاليات ولا سيما البالونات الحارقة، لكن رفض الفصائل الفلسطينية للعروض الإسرائيلية حتى الآن يشير إلى خوف الاحتلال من استمرار التظاهرات، وخصوصاً مع الانتخابات الإسرائيلية واستخدام الأقطاب والأحزاب الإسرائيلية لموضوع غزة في الدعاية الانتخابية. ومن الجهة الفلسطينية، أثبتت المقاومة أنه يمكنها حماية المتظاهرين ولو تدحرجت الأمور إلى حرب.

تستمر "مسيرة العودة" وأصبحت علامة فارقة في التاريخ والمستقبل الفلسطيني، وأثبتت أدوات المقاومة الشعبية والسلمية إضافة إلى حركة المقاطعة العالمية (BDS) جدواها مع المقاومة المسلحة، ما يجعل الاتفاق بين الفصائل الفلسطينية على مشروع كفاحي مشترك، أسهل بكثير. 

من ناحية أخرى، يدرك الاحتلال أن استمرارية الفعاليات ستأخذ زخماً أكبر في الضفة الغربية والقدس المحتلة، ولا سيما مع وقف أموال السلطة الفلسطينية وحصارها مالياً وسياسياً، ما يجعل القيادة الفلسطينية أمام خيارين: المواجهة بأشكالها المتنوعة أو الانتحار السياسي.

صمود غزال
صمود غزال
صحافية فلسطينية لاجئة في لبنان. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.