"مأزق تشايكوفسكي": وضعية جلوس مريحة في غرفة زجاجية

"مأزق تشايكوفسكي": وضعية جلوس مريحة في غرفة زجاجية

23 مارس 2019
+ الخط -
مع الإصدار الروائي الأول، كثيراً ما تنفتح أمام المؤلف دوامة من الحسابات، فغالباً يحاول أن يجعل من عمله أن يقول كل شيء، أو أن يشبهه في أدقّ التفاصيل، ظناً بأن ذلك هو السبيل لاقتطاع مساحة في المشهد الأدبي.

في عمله الروائي الأول "مأزق تشايكوفسكي" (سوتيميديا، 2018)، يعفينا الكاتب التونسي شوقي برنوصي من دخول متاهة كهذه. بالعكس، يقترح علينا عملاً قليل الشخصيات، يقف عند أطر زمانية ومكانية واضحة المعالم، غير منغلقة بالكامل وغير مفتوحة على اللانهائي. باختصار، هي رواية تبعث عالماً تخييلياً مشكّلاً من عناصر يمكن للكاتب والقارئ أن يمسكا بها بسهولة. إضافة إلى ذلك، يتحفنا المؤلف بوضع موسيقى "بحيرة البجع" خلفيةً للعمل، إذ كانت مهرب الراوي من كل ما حوله، وملاذاً متخيلاً للقارئ إذا أراد.

هذه العناصر، ربما يختصرها الفصل الأول من العمل (أين الزر؟)، حين نتابع الراوي (مروان) يبحث "طويلاً عن زر تعديل المقعد". ذلك البحث عن وضعية مريحة للراوي أفضى إلى توفير وضعية مريحة للقارئ الذي تنفتح أمامه الحكاية تدريجياً، بفضائها المكاني الأول (القطار) وشخصياتها. وكلما همّت هذه الأخيرة، أو أفكار الراوي بالذهاب بنا بعيداً، عاد بنا المؤلف إلى "بحيرة البجع" هرباً من كل تلك المتاهات التي كثيراً ما تعترضنا في الروايات ولا نخرج منها.

رغم ذلك، فإن الرواية ليست باردة أو تدعو إلى طمأنينة زائفة ففي نسيجها فخاخ كثيرة، بداية بعنوانها المغالط والجميل، حين يلقي بفرضية الرواية البيوغرافية وهو يستدعي اسم الموسيقار الروسي، ولكنه أيضاً يحمل تصريحاً بأننا سنكون حيال "مأزق". مع انسياب السرد، يبدو المأزق مؤجلاً دائماً، خصوصاً حين تعود الموسيقى لتضع كل شيء في "غرفة زجاجية" يحتمي فيها كل من الراوي والقارئ.

تستدعي الرواية أيضاً ثيمة إشكالية هي المثلية الجنسية، فالراوي يستقل القطار للقاء عشيقه. غير أن برنوصي، وفي شكل آخر من أشكال الأريحية، لا يأتي على الموضوع من زاوية صدامية فتنفلق الشخصيات بين مع وضدّ، ويصبح النص سجالاً مُغلفاً في حكاية. بالعكس، كل شيء يمضي بشكل طبيعي، وإذا انفلت قليلاً تعود الموسيقى لتنظم كل شيء.

فجأة يظهر لنا راو جديد، أو بالأحرى راويَةٌ. لن نفهم ذلك إلا باستعمال أدوات التأنيث. إنها زوجة مروان، ومع حضورها ننفتح على فضاءات جديدة، وكذلك على زوايا نظر مختلفة للراوي، كما نتجه صوب إشكالية أخرى يفكّكها العمل. يصعد تدبير الحياة الزوجية للواجهة لتناقش الرواية انعكاساتها على مستويات متعددة من العلاقة الحميمة إلى عالم الحياة العامة. 

انتقالات مرتّبة تركّب صورة للمجتمع التونسي بعد 2011. وهذا الخيار للذهاب نحو الراهن إشكالي في حدّ ذاته. إنه زمن الفوضى التي تتمخّض عن مآزق لا تنتهي، ومنها مأزق الراوي حيال هويّته حين يصل القطار إلى المحطة، وقتها لن تقدر موسيقى تشايكوفسكي أن تنقذه من اتخاذ قرار.