في محبة عبد الرحمن فهمي ورفاقه المنسيين

في محبة عبد الرحمن فهمي ورفاقه المنسيين

24 مارس 2019
+ الخط -
لم يكن غريباً أن تمر علينا هذا العام ذكرى اندلاع ثورة 1919، كما تمر كل عام، في صمت شبه مُطبق، خاصة وقد أصبحنا نعيش في بلد يعمل حكامه جاهدين، على أن يتحسس المواطن جيبه الفارغ ويشكو حاله الواقف، وينعي حظه المقندل، كلما سمع كلمة ثورة، حتى ولو كانت قد حدثت سنة 1919. 

حين نقارنها بالكثير من الثورات الشعبية والانتفاضات الجماهيرية التي قام بها المصريون على مدى تاريخهم، سنجد أن ثورة 1919 كانت أسعد حظا بما حصلت عليه من مكان ومكانة في الذاكرة الجمعية للمصريين، ربما لأنها عاصرت نشأة وسائل الإعلام المطبوعة والمذاعة والمصورة، والتي حفظت لنا برغم بدائية تقنياتها، الكثير من وقائع الثورة وأحداثها، ومع ذلك فكما اختزلت كتب التاريخ الرسمية والرائجة مجمل الثورة العرابية في شخص أحمد عرابي وعدد قليل من رفاقه، ونسيت مئات الشهداء الذين سقطوا في معارك الثورة العرابية العنيفة والضارية، ولم يحصلوا حتى على لوحات تذكارية تكرم أسماءهم، في حين حرص الإنجليز على أن يكرموا قتلاهم في موقعة التل الكبير مثلا، في لوحات تذكارية نصبت في نفس الأماكن التي سقطوا فيها، فقد فعلت كتب التاريخ الرسمية والرائجة ذلك أيضا في ثورة 19، حين اختزلت كفاح المصريين في عدد محدود من الزعماء السياسيين، على رأسهم الزعيم سعد زغلول، دون أن يتم إنصاف الكثير من أبطال الثورة الذين قدموا تضحيات بأجسادهم وأرواحهم، لم يكن ممكنا لولاها أن تنجح الثورة، ولا أن يحصد سعد ورفاقه السياسيين النجاح الذي حققوه على مائدة المفاوضات، ومع ذلك فقد كان التجاهل والنسيان مصير أبطال الميادين الثورية، و ياليت ذلك حدث بعد موتهم، إذ لهان الأمر وأمكن تبريره، فالأمرُّ والأدهى أنه حدث في حياتهم، وأن كثيرا منهم "ماتوا واندفنوا بالحيا"، دون أن يحظوا بالإنصاف والتكريم الذي يستحقونه. 


لن تجد مثالا أمرّ ولا أوضح، مما حدث مع المناضل الفذ عبد الرحمن فهمي الذي يعتبره كثير من المؤرخين القائد الحقيقي لثورة 19، لأن العمليات العنيفة التي قام بها الجهاز السري للثورة، الذي كان يقوده ويشرف عليه، كان لها الأثر الأهم في حسم الكثير من المنعطفات الصعبة التي خاضتها الثورة، وكان يمكن للقوة العنيفة المسلحة التي قابلها بها الإنجليز وعملاؤهم من المصريين أن تجهض الثورة، ولذلك فقد كان سعد زغلول بوصفه القائد السياسي للثورة، يحرص على فتح قنوات اتصال سرية بينه وبين عبد الرحمن فهمي ورفاقه، ويستغل ما يقوم به جهازهم السري من عمليات عنيفة ومسلحة، لدعم ما يقوم به على مائدة المفاوضات، بل وكان يقترح بعض هذه العمليات، ومنها بالمناسبة ما كان يتم ضد سياسيين مصريين وصحفهم المناوئة للثورة، لأن سعد زغلول ومن خلال معاصرته للثورة العرابية ووقائعها المريرة، كان يدرك أن الثورة لم تكن ستنجح فقط بالمظاهرات السلمية التي تشترك فيها النساء مع الرجال، ويتعانق فيها الهلال مع الصليب، وأنها لو لم يكن لها قدرة على توجيه ضربات عنيفة لأشخاص ومؤسسات ومصالح الإنجليز وحلفائهم من المصريين، لأصبحت أثرا بعد عين.

وبرغم أن عبد الرحمن فهمي كان يضم في ذلك الجهاز السري عددا كبيرا من الشباب الذين تحلقوا فيما بعد حول سعد زغلول، وأصبحوا من أبرز القادة السياسيين للوفد ثم للحركة السياسية في مصر طيلة الثلاثينيات والأربعينيات، وعلى رأس هؤلاء أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي، إلا أن سعد زغلول كان قد فرض زعامته الجماهيرية، بحكم الجماهير نفسها، وليس بسعي منه، وفي ظل ذلك بدأت الخلافات تزداد بين سعد زغلول وعبد الرحمن فهمي مبكرا جدا، منذ أن رأى عبد الرحمن فهمي أن كل ما يقوله من ملاحظات على الخطوات السياسية لسعد زغلول لا يجد أذنا صاغية، وأن الوحدة التي كان يجب الحفاظ عليها بعد الثورة قد تفككت، وهو المناخ الذي أسفر عن مصادمات مسلحة بين أنصار سعد وأنصار عدلي في عام 1921 ـ كنت قد تحدثت عنها في فصل من كتابي (فتح بطن التاريخ) الصادر عن دار الشروق ـ .

كان عبد الرحمن فهمي قد دخل إلى السجن عام 1920، في قضية (العقاب الثوري) التي ثأر بها الإنجليز منه ومن رفاقه في التنظيم السري، قبل أن يتفرغوا للتنكيل بسعد زغلول ورفاقه، ليتم نفيهم للمرة الثانية، ولكن هذه المرة إلى جزر سيشل، بعد أن تم نفيهم في بداية اندلاع الثورة إلى مالطا، وهي معلومة يتغافل عنها الكثير من هواة الولولة الثورية المعاصرين، الذين ينسون أن النفي الأكبر لسعد زغلول من مصر كان عقب مراحل عديدة من تطورات الثورة، وفي وقت بدا أن شعلة الثورة قد أخمدت إلى الأبد، وأن الإنجليز وأذنابهم تمكنوا من تحقيق انتصار حاسم على إرادة الشعب، لكن سعد زغلول لم يعد فقط إلى مصر بعد نفيه بعد طلب العفو كما حدث مع أحمد عرابي، بل عاد سعد زغلول في عام 1924 رئيسا للوزارة مكرسا زعامته شخصا وحزبا للأمة المصرية، ليتواصل فصل جديد من فصول الثورة على الاحتلال والاستبداد، لم يكن الأخير بالطبع. 



حين أصدر سعد زغلول عقب توليه الوزارة، قرارا بالإفراج عن عبد الرحمن فهمي وأغلب رفاقه من السجن، خرج عبد الرحمن فهمي ليجد واقعا جديدا تماما، ليس له فيه مكان حقيقي وفعال، حيث اتفق ـ هل أقول تواطأ ـ الكل بما فيهم أقرب أصدقائه ومعاونيه، على إبقائه في الظل بعد نجاح الثورة ووصولها إلى الحكم، لكي لا يؤدي إنصافه إلى تشتيت الأنظار عن سعد زغلول، القائد الذي أصبح رمزا للثورة، والذي بات من مصلحة البلاد أن تتوحد حوله الأصوات والجهود، ليدخل عبد الرحمن فهمي في حالة من الصمت الاختياري، ويدخل في اعتكاف طويل، حيث بدأ في كتابة مذكراته أو حولياته السياسية، والتي بدا خصوصا في جزئها الثاني، أنه ممرور للغاية من سعد زغلول، وأن سوء التفاهم الذي وقع بين الإثنين أحدث صدوعا لا سبيل لرأبها أبدا. 

حين خلف مصطفى النحاس أستاذه سعد زغلول في زعامة الوفد سائرا على نفس خطاه، استمر صمت عبد الرحمن فهمي، حتى فاجأ الجميع في عام 1935 بعد احتدام الأزمة السياسية بين شركاء الثورة القدامى، والذين تحولوا إلى خصوم سياسيين لدودين، فأصدر بيانا ملتهبا يدعو فيه إلى وحدة الصف، ومع ذلك فقد اختار ألا يقف إلى صف مصطفى النحاس وحزب الوفد، وإنما فاجأ الجميع بثنائه على محمد محمود باشا خصم النحاس والوفد، وقام بعقد لقاءات مع حافظ رمضان رئيس الحزب الوطني واسماعيل صدقي رئيس حزب الشعب وحلمي عيسى رئيس حزب الاتحاد، معتبرا أن النحاس يقوم بشق صف الأمة حين يركز على معركة الدستور أكثر من تركيزه على معركة الاستقلال، مناشدا إياه أن يقوم بتعديل مساره السياسي، لكنه لم يدرك أنه أساء إلى نفسه وإلى تاريخه وإلى نواياه الطيبة بلقاءاته مع سياسيين من نوعية اسماعيل صدقي وحلمي عيسى، لا يتورعون عن تلبية دعوات الملك فؤاد لضرب الوفد بأي شكل ممكن، وأنه أصبح بذلك خصما واضحا ليس لشخص النحاس، بل لحزب الوفد الذي كان يرى أن معركة الدستور هي المعركة الحقيقية التي لو انتصر فيها الشعب، سيمكن له أن يصنع مصيره بيديه بعيدا عن نفوذ الأسرة المالكة والاحتلال البريطاني.

ولأن عادتنا من قديم الأزل ولم نشتريها هذه الأيام، ألا نحتفظ خلال خلافاتنا السياسية بقدر الخصوم المختلفين معنا، فقد ساءت الأمور حين قرر عبد الرحمن فهمي تطوير خلافه السياسي مع الوفد، بإعلانه خوض انتخابات عام 1936 في مواجهة مرشح الوفد، ليقوم الوفد بصحافته ونفوذه السياسي والشعبي، بتحويله من قائد حقيقي لثورة 19 يستحق التقدير والاحتفاء، إلى خصم سياسي متحالف مع الفاسدين ومتواطئ المتآمرين على إرادة الشعب، ومع أن خوض أي سياسي لمعركة انتخابية ضد الوفد كان أمرا شديد الصعوبة دائما، إلا أن أحدا لم يتوقع أن يسقط عبد الرحمن فهمي عميد الفدائيين المصريين في الانتخابات، ويحصل على 264 صوتا فقط، برغم تضامن عدد كبير من السياسيين والمثقفين المصريين من كافة الأحزاب لمساندته إكراما لقدره، ومع ذلك فقد اكتسح منافسه محمد عبد الصمد أفندي الانتخابات، ليقرر عبد الرحمن فهمي أن يعتزل العمل السياسي مكتفيا بالكتابة، مصدرا بيانا مليئا بالمرارة قال فيه "وإذا كنت قد أديت الخدمة لوطني في نهضته الكبرى عن طريق اللسان والعمل إلى حد قرب عنقي من حبل المشنقة ومن السجن الطويل والمعاناة الشاقة فإني أضع اليوم إلى جانب هاتين القوتين، أضع قلمي في الميدان لتكون الخدمة للوطن الخالد باليد والقلب واللسان متجاهلا خصومة أي إنسان راضيا بالعمل حيث يدعو الصالح الوطني العام"، لتكون صورة الخسارة الانتخابية المدوية آخر ما بقي في أذهان معاصريه، ولتتوارى مع الوقت سيرة نضاله الفدائي المبهر، وتدفن في بطون الكتب والمذكرات، ويصبح من آمال كل من قرأ تلك السيرة العطرة، أن يتم تصحيح هذا الخطأ، قبل أن يمر مائة عام على قيام ثورة 19، فينال عبد الرحمن فهمي حقه من التكريم والإنصاف، وتوضع مواقفه كلها في سياقها التاريخي دون افتراء ولا تجاهل. 

(2)

وإذا كان يمكن أن نعتبر ما تعرض له عبد الرحمن فهمي من إنكار لدوره الفدائي المجيد، أمرا تسبب فيه دخوله في معترك السياسة، واختياره أن يكون خصما معلنا لزعيم ذي شعبية طاغية مثل مصطفى النحاس، فإن ذلك لا يمكن قوله في حالة "الكثيرين من شهداء ثورة 19 الأموات والأحياء، الذين لعبوا أدوارا هامة في إنجاح الثورة، دون أن يتذكرهم أحد بكلمة طيبة واحدة"، على حد تعبير المؤرخ الصحفي صبري أبو المجد الذي لحسن حظنا، سمح له صاحبا دار الهلال إميل وشكري زيدان في الأربعينات، أن يتفرغ شهرين كاملين على نفقة الدار، يجوب خلالهما مصر من أسوان إلى الإسكندرية بحثا عمن أسماهم الشهداء الأحياء من ثورة 19، فيخرج بحصيلة مشرفة ومؤلمة من الأسماء الثورية العظيمة، كان يمكن أن يطويها النسيان التام، لولا أنه حفظها داخل صفحات سفره الضخم (سنوات ما قبل الثورة) بمجلداته الأربعة، والتي لم تعد طبعها الهيئة العامة للكتاب منذ فترة للأسف الشديد.  

من تلك الأسماء الثورية التي تواطأ الجميع على ظلمها، يحضرني في البداية اسم البطل أسعد مشرقي، الذي لم يكن له من اسمه نصيب، فقد حوكم خلال أيام ثورة 19، وقُضي عليه بالإعدام بسبب عملية فدائية قام بها في مدينته ديروط، وبعد ضغوط سياسية عديدة، تم تخفيف الحكم عليه إلى المؤبد، ليبقى في ظلام السجن، حتى بعد نجاح الثورة ووصول زعيمها سعد زغلول إلى منصب رئاسة الحكومة، حيث رفضت السلطات البريطانية كل طلبات الإفراج عنه، حتى أن العفو الشامل الذي أعلن بمناسبة توقيع معاهدة 1936، و الذي شمل كل المعتقلين لأسباب سياسية أو المقبوض عليهم بتهمة الاشتراك في أعمال مسلحة، بل ولم يفرج عنه بعد قضائه ثلاثة أرباع المدة، كما هو المتبع في كل سجون مصر، ليظل في السجن حتى أكمل مدة عقوبته كاملة غير منقوصة، وحين خرج من السجن، لم يجد الزغاريد والحشود في استقباله، ولم يلتفت إليه أي من شركاء الثورة الذين تقلبوا في المناصب الوزارية والمواقع السياسية، بل توارى عن الأذهان، ليكتشفه صبري أبو المجد بالصدفة، ويفاجأ بأن المطاف انتهى به أن يعمل خفيرا لكوبري المعاهدة قرب مدينة ديروط بمحافظة أسيوط، بعد أن تعذر عليه فور خروجه من السجن العثور على عمل مناسب يضمن له الكفاف من الرزق، ومع أن ذاكرة الإنترنت أصبحت تحتفظ بمكان داخلها لكل من هب ودب، إلا أنك لو جربت أن تكتب اسم أسعد مشرقي في أي من خانات البحث في الإنترنت، لن تجد سوى الصمت الرهيب إجابة على بحثك. 




مصير مؤلم مشابه كان من نصيب بطل آخر من أبطال الثورة هو عبد القادر شحاتة، الذي قضى سنين من عمره في السجن بسبب حكم صدر ضده خلال أيام الثورة، وحين خرج في العفو العام سنة 1936، ظل بعدها لسنين عاطلا عن العمل، يرفض الكل تشغيله بسبب كونه "رد سجون"، وكأنه كان مجرما جنائيا عتيدا، وليس مناضلا ضحى من أجل استقلال بلاده، وظل وضعه المعيشي مريرا وسيئا، حتى جاء اليوم الذي أصبح فيه رفيقه في العمل السري أحمد ماهر رئيسا للوزارة في أكتوبر 1944، فوصلت حالته إليه عبر فاعلي الخير، ليلحقه بوظيفة في بنك التسليف الزراعي المصري، كانت كل ما ناله بعد سنين من السجن والبطالة، لكن حظه في نهاية المطاف كان أفضل من حظ البطل حسن ياسين الذي كان أول رئيس للجنة الطلبة في تاريخ مصر، والذي بلغ من تألقه الثوري والنضالي أن حصل على عضوية مجلس النواب سنة 1924، وكان وقتئذ طالبا في كلية الحقوق، ليؤدي أداء نيابيا مشرفا، جعل الملك فؤاد يحرص على ملاطفته في كل مرة يذهب فيها لافتتاح دورة المجلس، اتقاء لكلماته النارية التي كانت تصيب برذاذها كل المسئولين، لكن ذلك وكما جاء في رسالة مؤلمة تلقاها صبري أبو المجد من رفيقه المهندس حنفي الشريف، لم يمنع أن ينتهي به الحال "فقيرا معدما حتى أنني رأيته في أواخر أيامه يسير بالقبقاب الخشبي يرتدي روبا ممزقا وشعره أشعث في شوارع مصر الجديدة". 

(3)

أعلم أن لديك من الحسرة الكثير، ومع ذلك سيصيبك المزيد منها، حين تقرأ تجربة المؤرخ الصحفي صبري أبو المجد في البحث عن أبطال ثورة 1919 المجهولين وشهداءها الأحياء، لتجد أن الصدفة وحدها كانت سببا في عثوره على تجارب كثير من الأبطال كان يمكن أن تندثر إلى الأبد، لأنها لم تجد من يهتم بجمعها، من ذلك مثلا ما حدث له حين توصل بالصدفة إلى عنوان منزل أبناء البطل الثائر ابراهيم موسى الذي كان من أبرز القيادات العمالية التي شارك في ثورة 19، وتم اتهامه في قضية اغتيال السردار لي ستاك عام 1924، وحين رفض أن يعترف على نفسه أو على زملائه تم إعدامه في صمت مريب، ولولا دأب صبري أبو المجد في البحث عن أسرته لكانت قصته نفسها قد اندثرت إلى أن يقضي الله أمرا آخر.  

بعد أكثر من لقاء لصبري أبو المجد مع أسرة ابراهيم موسى، قالت له ابنة ابراهيم موسى أن لديهم في صندرة البيت كتابا ضخما كان قد خبأه رفاق والدها لديهم بعد فترة من إعدام أبيها، لأن الإنجليز ووزارة الداخلية لن يفكرا في العودة ثانية إلى بيت تم اعدام صاحبه، وأنها لا تعرف ما بداخل الكتاب الضخم، لكنها ستعطي له الكتاب لأنها أصبحت تثق فيه، وحين تصفح صبري أبو المجد الكتاب في التاكسي بعد عودته، اكتشف أن ذلك الكتاب المطبوع بالبالوظة يحوي المحاضر الكاملة للتحقيق في قضية السردار، والتي تتضمن تقارير البوليس السياسي وشهادات المتهمين وشهود النفي والإثبات، لتقوده تلك المحاضر إلى عدد من أبطال الثورة المجهولين من خلال عناوينهم الواردة في المحاضر. كان على رأس هؤلاء شيخ الفدائيين والثوار بالإسكندرية أحمد رمضان زيان الذي كان يمتلك محلا بسوق الليمون بالإسكندرية، والذي منح أبو المجد ثلاثة كراسات بها مذكرات وافية عن كل من اشتركوا في العمل الفدائي في الثورة، والذين أصبح بعضهم ضباطا في الجيش والبوليس بل ووزراء بعد ذلك، والمؤسف أن صبري أبو المجد بدوره مات قبل أن يكمل كتابة موسوعته المهمة، ودون أن يعرف أحد مصير الكثير من الوثائق المهمة التي حصل عليها، والتي علمتنا التجارب المريرة، أن نتمنى ألا تكون قد عادت إلى حوزة الدولة، لأنها حتما ستتعرض للتلف والضياع، وأن نتمنى بدلا من ذلك أن تكون قد ذهبت إلى أيدٍ أمينة تقدر قيمتها وتحفظها للأجيال القادمة.

(4)

يحكي صبري أبو المجد لنا عن شخصيات ثورية فريدة تعرف عليها بفضل تلك المحاضر، من أجملها ثوريان فريدان كانا عند قيام ثورة 19 يبلغان الستين من عمرهما، هما الحاج أحمد جاد الله وزوجته التي كانت تتنكر في زي ضاربة للودع، وتقوم بإخفاء القنابل في سلتها، لتبعدها هيئتها هي وزوجها ذو اللحية البيضاء عن شبهات عساكر الإنجليز والداخلية المصرية المتواطئة مع الاحتلال، ليتم القبض عليهما بعد فترة طويلة، وتكون محاكمتهما مسخرة ثورية بامتياز، حيث كان الحاج أحمد جاد الله كلما وجه إليه القضاة الإنجليز سؤالا، طلب منهم أن يصلوا على النبي، فيصلون عليه، فيقول لهم "زيدوا النبي صلاة"، ويكرر ذلك عدة مرات وهو ينفي الاتهام عن نفسه وعن زوجته قائلا "ده أنا رجلي والقبر قنابل إيه اللي أشيلها بس"، وحتى عندما ضعف قليلا، بعد أن زارته في السجن والدته التسعينية والمقعدة، ورآها محمولة على أكتاف القادمين لزيارته، بكى فغضبت منه وهددته بأن تتبرأ منه إذا ضعف خلال المحاكمة، فعاد ثانية إلى رباطة جأشه التي جعلت المحكمة مسخرة في نظر الكل. 

سنتعرف أيضا على سيرة الثوري الفذ عبد العزيز علي الذي كان موظفا كبيرا بمحافظة القاهرة وكان يقوم بطباعة منشورات الثورة في مبنى المحافظة، ويستعمل أدوات المحافظة بل وبعض موظفيها في توزيع المنشورات سرا، وكان يُشتهر بأنه لم يقبض عليه متلبسا ولو لمرة، وأنه أفلت من كل البلاغات التي وشت به وخرج منها دون أي إدانة. سنعرف أيضا قصة الطالب الثوري سيد محمد باشا الذي كانت مهمته إصدار نشرة الطلبة السرية، من خلال مطبعة يدوية كان ينقلها مع زملائه سرا كل ليلة، من مكان إلى آخر باستخدام عربة كارو متهالكة وغير مثيرة للشبهات، وكان يستعين مع زملائه على مشقة المهام الموكلة إليهم بما كان يعرف بنشيد الثورة الذي تم تأليفه خصيصا للطلاب، وتقول كلماته "يا عم حمزة احنا التلامذة ما يهمناش.. في القلعة نبات ولا المحافظة.. مستبيعين ناس وطنيين.. واخدين على العيش الحاف.. والنوم من غير لحاف"، وهو النشيد الذي عاد ليكون لسان حال الطلبة في انتفاضة 1935، وبعدها في انتفاضة 1946 اللتين كان للطلاب دور رائع فيهما، قبل أن تمر الأيام ويستلهم الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم كلمات ذلك النشيد الذي ألفه زكي الطويل والد الموسيقار كمال الطويل، ويقوم بكتابة قصيدة رائعة مطلعها "يا عم حمزة رجعوا التلامذة للجد تاني"، والتي لحنها الشيخ إمام وأصبحت لسان الحركة الطلابية في السبعينات وحتى اليوم ولا أظنها من الأغنيات التي يمكن أن تموت أبدا. 

(5)

من بين أبطال ثورة 19 المجهولين تعال نتعرف أيضا على الثائر عبد الوهاب البرعي الذي بدأ تاريخه النضالي إلى جوار الزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد والذي أشرف على تحرير جريدة (القطر المصري)، حين تم سجن صاحبها الصحفي المناضل أحمد حلمي بتهمة العيب في الذات الملكية، (ولعل من دواعي الأسى هنا أن نتذكر أن أحمد حلمي بكل ما له من تاريخ صحفي ونضالي طويل لم يشتهر بين القلة من المهتمين بتاريخ بلادهم، إلا بعد أن تم توصيفه بأنه جد كاتبنا الكبير وأبونا صلاح جاهين). 

كان عبد الوهاب البرعي قد شارك في قيادة العمل الميداني لثورة 19 في مديرتي الدقهلية والغربية، وبسبب نشاطه الثوري الموجع للإنجليز وأذنابهم من المصريين، حكمت عليه محكمة عسكرية بريطانية بالإعدام فهرب في مركب شراعي من المنصورة إلى حلوان، حيث خاض رحلة تخفٍ مثيرة ليتمكن من الإفلات من حبل المشنقة، وإن كان بعد انزياح الغمة عنه بعد قرارات العفو في عام 1924، قد تحول إلى معارض شرس لسعد زغلول في أوج مجده، ولم يلتزم حتى بالصمت الذي اختاره عبد الرحمن فهمي، بل ظل يهاجم سعد زغلول علنا، ويتهمه بالانحراف عن خط الثورة المصرية، حتى أن آخر مقالاته قبل موته في الهجوم على سعد زغلول كانت تحمل عنوان (اللهم انتقم)، وقد دفع بسبب تلك المقالات ثمنا مشابها للذي دفعه عبد الرحمن فهمي، حيث تمت إهالة التراب على سيرته، دون التفريق بين حقه في أن يكون له موقف سياسي معارض لسعد زغلول وقيادة الوفد، وواجب الجميع في أن يعطوه حقه من الإنصاف والتقدير لدوره الثوري. وهو ما تكرر أيضا مع الطبيب محمد حلمي الجيار من المنصورة الذي قبض عليه مع عبد الرحمن فهمي في قضية جماعة الانتقام في مايو 1920، وحُكِم عليه بالسجن خمسة عشر عاما، لكنه هرب في فبراير 1921 إلى تركيا، وحين زارها سعد زغلول عام 1924 بعد توليه رئاسة الوزراء، أصدر عنه عفوا، فعاد إلى الدراسة في كلية الطب التي كان قد تركها، ليتجدد القبض عليه بعد قتل لي ستاك، وينال دبلوم الطب وهو في السجن عام ابريل 1925، والغريب أن تاريخه النضالي الطويل لم يشفع له عند قيادة حزب الوفد التي رفضت بعد خروجه من السجن، ترشيحه على قوائمها في انتخابات 1936، ليحدث صدام بين شباب الوفد وقيادتهم، كان صداما عنيفا بحيث تدخل البوليس لحسمه وقتها.

(6)

نختم استعراضنا لشهداء ثورة 19 الأحياء، بقصة مذهلة عن الثائر المجهول أحمد عبد الحي كيرة، طالب الطب الذي كان يرفض الاشتراك في مظاهرات زملائه ضد الإنجليز، حتى أطلق عليه زملائه في الجامعة لقب (ابن اللنبي) نسبة إلى اللورد اللنبي وسخرية من حبه للإنجليز، ليكتشف أهله وأصدقاؤه بعد القاء البوليس القبض على تنظيم فدائي سري يقوده أحمد ماهر والنقراشي، أن كيرة كان عضوا قديما في التنظيم، وأن محبته للإنجليز كانت تمويها على نشاطه الثوري المسلح، شعر كيرة بضرورة الخروج من مصر، لكي لا يمكن الإنجليز وأذنابهم من شل حركته داخل السجن، اتفق بعض زملائه مع ربان باخرة إيطالية على تهريبه، لكن القبطان طلب مائتي جنيه ذهبا، متحججا بأنه يورط نفسه في تهمة خطيرة يمكن أن تجلب له الإعدام، وأصر القبطان على استلام المبلغ مقدما. 

انتشر أصدقاء أحمد عبد الحي كيرة في القاهرة والإسكندرية، يستبدلون الأوراق النقدية التي كان قد تم جمعها من المتطوعين بالذهب، حتى اشترى بعضهم الجنيه الذهبي بـ 150 قرشا، وكان ذلك رقما ضخما وقتها، ليتم تسليم المبلغ للقبطان قبل إبحار الباخرة بنصف ساعة، وحين وصلت الباخرة إلى أول ميناء إيطالي، فوجئ كيرة بأن البوليس الإيطالي يبحث عنه، بعد ضغوط تعرض لها من الإنجليز، ففر من الباخرة، وعبر الحدود إلى ألمانيا، ولأنه خاف من إرسال عنوانه إلى أهله لكي لا يقع العنوان تحت يد البوليس، وبدأ يعمل في تقطيع الأخشاب من الغابات ليكسب ثمن الطعام، بعد أن اتخذ من الحدائق سكنا له، وبعد مطاردات عديدة من البوليس، هرب إلى تركيا على أمل أن تحميه السلطات هناك، وبرغم ذلك لم يسلم من مطاردات البوليس الإنجليزي والمصري، حيث كان يتم إرسال عدد من الجواسيس إليه لمحاولة الإيقاع به، حتى أنه بعد أن كان قد فتح مقهى في استانبول بالاشتراك مع مصري آخر، اضطر لإغلاقه هربا من الجواسيس، وعمل ممرضا في مستشفى تابع لمصلحة السكة الحديد التركية، ثم انتقل للعمل في مناطق أخرى من أجل لقمة العيش، وكان مسدسه لا يفارقه أبدا. 

وحين نزل الخديوي عباس حلمي الثاني في استانبول بعد خلعه من العرش، قيل له من بعض رفاقه، أن أحمد عبد الحي كيرة سيقوم باغتياله لكي يحصل على عفو من الإنجليز، فشدد الخديوي الحراسة على نفسه، لكنه فوجئ ذات يوم بشاب داخل مكتبه يشهر مسدسا في وجهه وهو يقول له أنه أحمد كيرة، وظن الخديوي أنه هالك لا محالة، لكن كيرة سلمه مسدسه وقال له أنه لن يفعل ما تم اتهامه به، لأنه لن يحارب رجلا أعزل بلا سلطة ولا سلاح، ثم استعاد مسدسه وخرج، وحين حاول الخديوي الذي تأثر بذلك الموقف أن يتخذه سندا له رفض بشدة، وقال له أنه لا يطلب أكثر من أن يعيش في سلام وأمان. 

وحين تم اعتقال أحمد ماهر في قضية الاغتيالات السياسية، فكرت السلطات البريطانية في تسليم رقبته إلى المشنقة، فأرسلت مبعوثا إلى كيرة يجس نبضه في عرض شديد الإغراء، وهو أن يعود إلى مصر، ويشهد ضد ماهر الذي كان يعمل تحت قيادته في التنظيم من قبل، ولكي يتم استغلال ظروف كيرة الذي كان لا يجد قوت يومه إلا بشق الأنفس، خصوصا بعد ضياع ثروة والده، وضع المبعوث الموفد من قبل الإنجليز أمامه عشرة آلاف جنيه كمقدم لعودته إلى مصر، مع عرض موقع بالعفو عنه، لكي يكون شاهد إثبات، لكنه رفض بشدة، فأخذ الموظف الإنجليزي الكبير يضاعف العرض، حتى وصل إلى 40 ألف جنيه، لكن كيرة واصل الرفض، مؤثرا الاضطهاد والغربة والفقر على أن يخون نفسه ومبادئه، ويشهد ولو بكلمة ضد رفيق الثورة أحمد ماهر. 

لم يكن غريبا أن يتعرض أحمد عبد الحي كيرة في عام 1935 للاغتيال في تركيا، كعقاب على مواقفه الثورية، وخوفا من سيرته الناصعة التي تحولت إلى مصدر إلهام للثائرين من الأجيال الشابة في مصر، وبالطبع لم تتحرك المفوضية المصرية في استانبول لمتابعة التحقيق في قضية اغتياله، بدعوى أنه يحمل الجنسية التركية، وأنها ليست مسئولة عنه كمواطن مصري، والغريب كما يكشف صبري أبو المجد أن جريدة (كوكب الشرق) الوفدية التي كان يرأس إدارتها في وقت اغتيال كيرة الدكتور أحمد ماهر، كانت الجريدة الوحيدة التي لم تنشر كلمة رثاء في حق الشهيد أحمد عبد الحي كيرة الذي أنقذ أحمد ماهر من حبل المشنقة، ليقتل أحمد كيرة مرتين، الأولى برصاص المسدس الذي اغتاله، والثانية بستار الصمت الذي أسدله عليه أبناء وطنه لسنين طويلة، قبل أن يتعرض للتشويه في أحد الأعمال الأدبية التجارية التي تناولت تاريخ ثورة 19. 

(7)

لست مغفلا، لكي أختم كلامي بالمطالبة بتكريم هؤلاء الأبطال، خاصة ونحن نقترب من ذكرى مرور مائة عام على ثورة 1919، لأن دعوة كهذه ستقابل بعبارات من نوعية "يا أخي احنا في إيه ولا في إيه .. مش لما البلد تفوق من اللي هو فيه"، وهو ما قيل من قبل لكل من طلب لهم الإنصاف والاحتفاء، في حين أن من يردد عبارات مثل هذه لا يجد أدنى مشكلة في اضاعة البلاد لأموالها ووقتها في تمجيد البطولات المزيفة للكثير من السياسيين والعسكريين، ولا يدرك خطورة تضخيم دور الكثير من القادة المشهورين، وإعطائهم أكثر من حقهم، وربط كل الثورات والهبات والانتفاضات الشعبية بأشخاصهم، لتبدو معزولة عن سياقها ومنفصلة عن ارتباطها بالحركة الشعبية التي صنعت من هؤلاء قادة وزعماء، وهو ما يساهم للأسف في تكريس الكثير من أوهام المصريين عن تاريخهم، وعلى رأسها أنهم شعب لا يتحرك إلا إذا وجد القائد أو الزعيم الذي يحركه، مما يساعد على ضرب أي تحرك ثوري شعبي، يفتقد إلى وجود شخصيات سياسية شهيرة، وبعيدا عن هذا كله، وبمصاحبة هذا كله، يتواصل ضياع التاريخ الحقيقي لمصر وسط زفات موالد التزييف والدجل، ويسود بين شعبها التوهم بأن مصر من الممكن أن تشهد تقدما أو تنمية أو استقرارا، إذا فرطت في تضحيات أبنائها من الثوار والمناضلين، وأن أهلها يمكن أن يجدوا خلاصهم في رفع شعار "الحي أبقى من الميت"، مع أن التجارب المريرة المتتالية أثبتت مقولة نجيب سرور رحمه الله: "لا حق لحيٍّ إن ضاعت في الأرض حقوق الأموات".  

ـ فصل من كتابي (فيتامينات للذاكرة) الصادرعن دار الشروق عام 2016 ـ 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.