درس عملي عن الثقة بالقيادة

درس عملي عن الثقة بالقيادة

22 مارس 2019
+ الخط -

انتهينا من العشاء ثم الاجتماع التفقّدي الذي يليه، وأكّد لنا الضابط المناوب أننا سننام اليوم دون عقوبة. العقوبة الجماعية الليلية هي النهاية الطبيعية لكل يوم عسكري، ولا يُشترط أن تكون قد ارتكبت خطأً ما حتى تنالها. وهكذا وثقنا بكلام الضابط وخلدنا للنوم، متلفلفين ببطانياتنا العسكرية الجربة في محاولة بائسة لاتقاء برد كانون في مهجع يُسمّى زوراً وبهتاناً فندقاً، فقد نصف نوافذه الزجاجية.

لم تمضِ ساعة على نومنا حتى أيقظنا صراخ الضابط المناوب، مطالباً جميع عناصر الدورة بالاجتماع أمام الفندق العتيد باللباس العسكري الكامل، كان واضحاً أن الوعد بليلة دون عقوبة قد ذهب أدراج الرياح، ولكن الجيد في الأمر أنه طلب الاجتماع باللباس الكامل لا حفاة عراة كما جرت العادة.

انتقلنا بعد ذلك إلى الساحة التدريبية الرئيسية، وهناك رتّبنا الضابط في تشكيل خاص بحيث يبعد كل واحد ممن هم حولك بمقدار ذراعين. وقال: هذا الاجتماع ليس عقوبة، إنه درس عملي، يجب أن تتعلموه جيداً، درس عملي لم تعلّمكم إياه جامعاتكم وشهاداتكم التافهة. كان واضحاً منذ اليوم الأول لنا في الخدمة العسكرية، أن ثمة مشكلة عميقة بين الضباط وشهاداتنا الجامعية. ثم أضاف: الدرس هو درس عملي عن الثقة بالقيادة وأهميتها.

ثم أمرنا بخلع السترة العسكرية ورميها بين أقدامنا ففعلنا، ثم صرخ: ثلاث خطوات إلى الأمام سِرْ.. يمين دُرْ.. خطوة إلى الأمام سِر... اخلعوا البنطال وارموه بين أقدامكم. كان واضحاً أننا نرمي البنطال فوق سترة شخص آخر، ثم خطوة إلى اليمين ثم وراء دُرْ ثم خطوة إلى اليمين ثم اخلعوا القبعة، وهكذا كرّر العملية عبر شبكة معقدة لا متناهية من أوامر الحركة، فخلعنا بعد ذلك كنزات الصوف العسكرية ثم القمصان الداخلية ثم فردة الحذاء العسكري اليمنى ثم اليسرى، ثم فردة الجوارب اليمنى ثم اليسرى، وهكذا وصلنا إلى النتيجة المعهودة، ووقفنا حفاة عراة إلا من الشورتات الداخلية، وأمام كلّ منا كومة من الثياب فيها لباس كامل، ولكن كلّ قطعة منها تعود إلى شخص مختلف.

ثم بدأ القائد الخطبة العصماء عن أهمية القيادة التي تعرف وحدها فكّ هذا اللغز، ووحدها التي تملك الشيفرة، ووحدها القادرة على إيصال كلّ منا إلى ثيابه بيسر وسهولة، وأنه لو طلب منا أن نجد ثيابنا بمفردنا لسوف "نفلت مثل البقر الشموس" ولن تنفعنا شهاداتنا الجامعية بشيء. وبينما هو منغمس بنشوة انتصاره رنّ هاتفه، فأجاب قائلاً: نعم حبيبتي، ثم سار مبتعداً.

مرت 10 دقائق ثم 20، بدأ البرد يأكل أطرافنا العارية وبدا أن القيادة قد نسيتنا تماماً، وكنا أمام خيارين أن يختلط الحابل بالنابل في محاولة ليجد أكثر من 300 شخص ثيابهم المتداخلة في عملية قد لا تنتهي حتى الفجر، أو أن نصبر وننتظر، ونثق بالقيادة، فلا بد أنّ هذا كله جزء من الدرس العملي، وهكذا صبرنا ومرت 30 دقيقة ثم توقفنا عن حساب الوقت.

وبعد انتظار طال، عاد القائد ليفاجأ بوجودنا وكأنه لا يعرفنا، قال: ماذا تفعلون هنا؟
أجبنا: نخضع لدرس عملي عن أهمية الثقة بالقيادة، فقال: وما المطلوب الآن؟
قلنا: أن تستخدم الشيفرة وتفك اللغز، وتكرر الأوامر بشكل عكسي ليصل كل منا إلى ثيابه. نظر في وجوهنا ملياً ثم قال: بالفعل أنتم بهائم، هل تظنون أنني ما زلت أحفظ كيف خلعتم ثيابكم؟ بالكاد أذكر ماذا تعشيت اليوم، انقلعوا البسوا ثيابكم بشكل كيفي، تفو عليكم وعلى شهاداتكم الغبية، فانقلعنا.

وامتدت رحلة البحث عن الثياب إلى ما قبيل مطلع الفجر، لنخلد للنوم أخيراً وقد تعلمنا درساً غالياً عن الثقة بالقيادة!