المجرم ينصفنا... يحيا العدل

المجرم ينصفنا... يحيا العدل

21 مارس 2019
+ الخط -
أتابع في هذه التدوينة وقائع السهرة التي جمعتنا في منزل العم أبو محمد بمدينة "الريحانية" القريبة من الحدود التركية السورية، وكان معظم الأحاديث يدور حول السجون السورية، وبالأخص سجون أمن الدولة.

قال الأستاذ كمال: أنا عندي كتير أصدقاء من أصحاب التجارب في الاعتقال. إذا بتسمحوا لي إحكي شوي عنها، وإذا أوردتْ في حديثي معلومة غلط ممكن الأستاذ أبو زاهر يصحح لي.

قال أبو الجود: أنا بدي أعمل وقت مستقطع. لما كان أبو زاهر عم يحكي عن الأكل في السجن، صاروا الشباب يتمسخروا، وقالوا إنو المساجين في تدمر كانوا بعد الغدا ياكلوا حلويات مْشَكَّلِة. وبالأخص الكنافة النابلسية. أنا هون إلي تعليق.


قال أبو جهاد: ريتُن يعلقوك من إجريك. تفضل عَلِّقْ.
قال أبو الجود مخاطباً "أبو جهاد": صحبةً إن شاء الله.
وقال لنا: نحن في بلدة معرتمصرين منعرف الكنافة بجبنة والكنافة بقيمق والكنافة بلبي والكنافة المفروكة، أما الكنافة النابلسية فأنا أول مرة شفتا ودقت طَعْمْهَا في الشام، بمحل مشهور بأول شارع الصالحية اسمو "حلويات أباظة". وبعدما دقتا مرة تولعت فيا، وصرت كلما بروح عالشام بدي آكل منا. وأنا اليوم في النهار سمعت سمعة غريبة.

قال أبو سلوم: أشو سمعت؟
قال أبو الجود: سمعت أنو عمنا أبو محمد اليوم راح يجيب لهون صينية كنافة نابلسية. صحيح هالحكي عمي؟

ضحك أبو محمد وقال: مخابراتك قوية. أي والله صحيح.
وشرح لنا أنه تعرف هنا في "الريحانية" على شاب سوري كان يشتغل في صناعة الكنافة المتنوعة، وفتح دكاناً هنا يبيع فيه الحلويات، ومنها النابلسية.
قام أبو الجود من مكانه وتقدم من أبو محمد، وباس جبينه، وقال: والله أنك رجل محترم.

قال كمال: طيب. خلونا نرجع للسيرة المعتة تبع السجون. في التمانينات اتبعوا مع المساجين أسلوب فظيع، وهو أنهُنْ كانوا ينقعوهم في زنزانات فروع الأمن شهر، وشهرين، وتلاتة، وعشرة، مع وجبات تعذيب يومية، دون أن يعرف السجين أيمتا راح ينتهي هالكابوس.. وفجأةً بيطلبوا منو يضب حوايجو، وبيشحنوه لمكان مجهول، وبعدما ينزلوه بيكتشف أنو صار في مكان أسوأ من السابق، اللي هوي "فرع فلسطين"..

قال أبو محمد: يعني بياخدوه بالغلط على الفرع تبع أهل فلسطين؟
ضحك كمال وقال: لا والله ما في غلط، بس متلما بتعرف إنو حافظ الأسد كان يدّعي تأييد القضية الفلسطينية، منشان هيك سَمُّوا هالفرع السيئ الصيت باسم فلسطين، وجواتو كانوا يهينوا الفلسطينيين والسوريين والعراقيين وكل الملل والنحل على حد سواء. وبهادا الفرع بيقعد المعتقل فترة إلها أول وما في حدا بيعرف نهايتا، وخلال الاعتقالين الأول والتاني بيلتقي بالناس اللي وضعهم بيشبه وضعو، وبيحكوا لبعضهم قصص وأحداث ووقائع عن الناس اللي سبقوهن في الاعتقال، وكيف بالنتيجة وصلوا لمحكمة أمن الدولة اللي بيرأسا شخص مانو مجرم عادي، ولاكن ممكن نعتبرو أستاذ في الإجرام.

قال أبو زاهر: لحد هلق الأستاذ كمال عم يحكي صح، وكأنو كان معتقل معنا. وطبعاً هوي عم يختصر. ومعو حق، لأنو إذا بدنا نحكي كل التفاصيل ممكن ما نخلص حديثنا بشهر.
قال أبو جهاد: ما اختلفنا، بس يا ريت الأستاذ كمال يشرح لنا شلون يعني رئيس محكمة أمن الدولة (أستاذ) في الإجرام؟

قال كمال: يعني إذا في مجرمين زغار، حابين يتدربوا، ويطوروا إمكاناتُن، ويصيروا مجرمين كبار، ممكن هوي يعمل لهم دَوْرة في الإجرام، ويلقي عليهم دروس ومحاضرات، وفي المحصلة يعطيهون شهادات تَخَرُّج بمعدلات عالية.

قال أبو زاهر: المهم. كنا نحنا المعتقلين نحكي لبعضنا، وننبه بعضنا إنو لما بتوقف قدام هاد المجرم الكبير رئيس المحكمة لازم تكون متل قالب الشمع، أو قالب البوظ. ولازم يا سجين تنتبه. لما بيفوت المجرم عَ القاعة وبيقعد ورا طاولتو، بيجوا المساعدين بيحطوا إضبارتك قدامو، وبيفتح هوي عَ الصفحة الأولى، وبيقرا عليك تهمتك باختصار شديد، لازم تسمع وتبقى مجهز حالك..

مثلاً، إذا قدامو أبو الجود، بيقول: اسمك محمد عبد الله، والدك عبد الجواد، والدتك فاطمة، تهمتك نقل رسائل للإخوان المسلمين، حكمك عشر سنين. وبيسكر الإضبارة. هون في جملة واحدة لازم يقولا المعتقل لحتى ما يغضب رئيس المحكمة المجرم ويزيد العقوبة.. وهي: يحيا العدل.

للحديث صلة..
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...