وكيف لمثلك ألا تموت شهيدة؟

وكيف لمثلك ألا تموت شهيدة؟

20 مارس 2019
+ الخط -
لا أذكر، على وجه الدقة، كم مرة جاءني صوتك يذكّرني بأن العام الدراسي على الأبواب، وأن طلبة وتلاميذ كثيرين في قريتنا يستحقون أن أساهم بحصة في مصروفاتهم الدراسية، وأن آخرين بحاجة لأن أتقاسم معهم ما في خزانة ملابسي.

لا أظن، كذلك، أن قاتلك، وأنت تهمّين بلملمة سجادتك بعد صلاة الفجر، واحد من هؤلاء، بل هو على الأرجح من هؤلاء الغرباء العابرين في هذا الزمان الغريب.

كل ما أعرفه أن بيتك لم يُغلق بابه في وجه سائل أو محتاج قط، كان بيتك خيمة للفقراء، ومائدة للجائعين، وكنتِ أنت تلك السحابة التي لم تبخل بغيثها على أحد يطلب المساعدة، خبزًا كانت أم كتابًا، أم جهاز عروس، أم وصفة علاج.



يقيني، أن قاتلك من الغرباء، فالذين يعرفونك يدركون أنه ليس ثمة ما يمثّل غنيمة للصوص في بيتك، وأنك على امتداد سنواتك الثلاث والسبعين، لم تعرفي الادخار، فكل ما لديك يخرج زكوات وصدقات، آناء الليل وأطراف النهار.

شهيدة أنت يا أختاه.. فكيف لمثلك ألا تكون مع الشهداء؟
يقيني، أيضًا، أنك سامحتِني على عجزي عن تحقيق رغبتك في رؤيتي قبل الرحيل، وسوف تسامحينني على تأخّري في إرسال ردي على رسالتك الأولى، وأنا في السنة الأولى من المنفى الإجباري، رغم أنني كتبت الرد فور استلامي رسالتك المكتوبة بخط يدك الجميل، في ذلك اليوم الشتوى من فبراير/شباط 2014، أذهلني أن خطك نسخة من خط أبيك الجميل.

قرأت رسالتك، وكتبت ردي، لكنّي وجلت أن أرسله، حتى لا تبكين أكثر.. والآن، فقط، أنشر رسالتك، وردّي عليها، فسامحيني..

"ابني وأخي الصغير الجميل وائل أبو محمد
دعوة مَن أنتَ أيها الجميل النبيل البسيط؟
جدك المجاور الأزهري الآتي من المغرب، أو لعله آت من الأندلس البعيدة، مَن يعلم! ليؤسس هذه المدرسة في "رملة الأنجب" وينجب (السيدة) الحسيبة النسيبة الجميلة التي أنجبت بدورها هذا الوائل ليكون شاهدًا على أندلس جديدة، وانحسار وجذر لموجة من موجات الأمة التي لا تفنى ولا تزول وتؤتي أكلها كل حين ما دامت موصولة بالسماء ومسترخصة للدم وللشهادة على الأرض.

"استقام البكاء لصوتك
لم يستقم لي بكائي"

هل تذكر هذا البيت؟ قاله في بغداد حين رأى هنديًا غريبًا يشرب ويبكي، أظن أنه قاله قبل سقوط بغداد. يعذبنا ربنا هنا بالبكاء المجمد والكمد والذهول وعيون الكلاب في كل مكان وأينما نتلفّت.

احمد الله على هذه المحنة والنعمة الكاملة التي تكابدها خارج البلاد التي لم تعد بلادنا. سينزل عليك الغفور الرحيم الجلد والصبر والفقه، وسيمتّعك دائمًا بهدوء تتحلى به، وإنصافٍ وتوحدٍ جميل، وحزن نبيل، وفرح قادم بإذن الله.

يا ابن "السيدة" وابن الحسن الجميل وابن محمد قنديل: سلام لعلي ألقاك قبل أن ألقى الله.
الدموع لا تكفي والحزن على فراقك وتخيّل بُعدك الطويل يوهنني ويمضني، ماذا أفعل يا ولدي وأخي وحبيبي وضناي.. عد ولو طيرًا من الشباك".

رملة الأنجب
منتصف فبراير/شباط 2014

.....

وإليكِ ردّي المجمد، كما البكاء المجمد على بلاد لم تعد بلادنا:
أعدُك أني سأعود يا أمي، لكني سأعود جملًا من الباب الكبير، لا طيرًا من الشباك. أعلم أنك لا ترضين لي أن أتسلل منحنيًا إلى بيت أبيك وأمك، ثقي أني سأرجع يوما مرفوع الرأس، ولن أخذل غرس والدينا.

أذكّرك بدرس أبيك لنا، نقلا عن عباس محمود العقاد: (إن الكلب رغم وفائه محتقَر، لا لشيء إلا لأنه رضي أن يوضع في رقبته قيد حتى وإن كان من ذهب).

وإلى أن أعود، اذهبي إلى قبر أمّنا وأبينا وعرّجي على قبر زوجك الحبيب، شاعري الأحب ومعلمي الأول، وامتداد أبي، قولي لهم إني لن أخون ما علموني. ولا تنسي أن تمرّي على قبر الدكتور سعيد تهامي، شهيد رابعة (بالتأكيد مدفون قريبًا من زوجك) قولي له إني سامحته على خشونته معي أثناء كرة القدم قبل 28 عاما، واطلبي منه أن يسامحني على انفعالي، أبلغيه أني أعتبر إصابتي في عضلة الفخذ نتيجة جديّته في اللعب وساماً على صدري، أقرئيه مني الفاتحة والسلام.

ولا تنسي الوقوف أمام قبر "الأستاذ أحمد" أستاذي وتلميذ أبي، قولي له إني ما زلت أحتفظ بألم لسعات عصاه على يدي وساقي حين أبلغه المخبرون في مدرسة أخينا الشهيد وحيد قنديل الابتدائية أني كتبت على السبورة ذات يوم دراسي عام 1977 "يسقط الخائن الذي زار إسرائيل".. قولي له أيضا إني أعلم أنه كان أكثر تألماً وغضباً مني على الزيارة المشؤومة، وإني أدرك أنه عاقبني بعنف أمام الجميع لكي يحميني من غدر البصاصين ووشاياتهم.

سأعود يا حرة يا بنت الأحرار، كي أقطف عناقيد العنب من التكعيبة التي زرعها وأقامها زوجك الشاعر، العارف بأسرار الأرض ولغتها، وأختلس من مكتبته كتب الفلسفة، وأتسلل بها مثل لص شريف، وأنت تغضين الطرف مبتسمة راضية عن خروجي بها كلما زرتك.

قولي لابنتك "ناهد"، سمية شقيقتي الأكبر منك، والتي لم تنتظر مولدي فرحلت مبكرا، إن الله عوضني بها، عن أختي التي لم أرها، وقولي للصغيرة إني لست أحمل كرهًا لأحد من المخدوعين الذين كانت قابليتهم للخداع من أسباب اغترابنا عن الوطن، واغتراب الوطن عنا.

أبلغي الصغيرات، اللاتي كبرن في سفري، اعتذاري عن عدم حضور حفلات خطوبتهن، ثم زواجهن، وسبوع مواليدهن، وقولي لهن إني سأحمل ما أنجبن يوما.. وإلى أن أعود سلّمي على شخبطاتي فوق حوائط بيتنا الكبير القديم.

دلالات

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا