لحوم وحلويات في سجن تدمر

لحوم وحلويات في سجن تدمر

19 مارس 2019
+ الخط -
بعد زيارتنا لابن بلدنا "أبو نبهان" في مدينة أنطاكية التركية بقصد تهنئته بخروج ابنه من السجن، أصبحت أحاديثُ السجون والمعتقلات تستهوينا، وكلما التقينا نخوض فيها. سهرتنا في منزل العم أبو محمد في مدينة الريحانية بعد أيام قليلة لم تَخْلُ من هذه الأحاديث..

ففي بداية الجلسة، قال أبو الجود: بدي قول لكم معلومة وأنا متأكد أنها راح تعجبكن. كرم الضيافة اللي راح يقدم لنا إياه أبو محمد في هَالسهرة أكيد راح يلطف الجو، ويخفف من الألم اللي بينتج عن قصص السجون والمعتقلات.


قال أبو جهاد: أنت ما عندك هَمّ في الحياة غير الضيافة والأكل والبلع. وكلامك هاد فيه إحراج لـ أبو محمد. ممكن يكون الرجل عم يمر بظروف معاشية صعبة، وما راح يقدم شي من كرم الضيافة غير كاس الشاي.


لم يرد صاحب الدعوة العم أبو محمد على كلام أبو جهاد، ففي تلك اللحظة فَتَحَ ثلاثةٌ من أبنائه الباب، وباشروا بنقل مناسف البرغل التي نُشرت فوقها قطع لحم الخروف والدجاج واللوز والصنوبر المحمصين، وصففوا على السفرة الصحونَ المملوءة بأنواع من الأطعمة السائلة واللبن والشوربات والخضار المقشرة والمنظفة كالبصل والفليفلة والفجل.

قال أبو الجود: وحياة عينك يا أبو جهاد أنا بعرف أيش عم أحكي، لأن أهل الكرم والجود من أمثال عمي أبو محمد إلهُن علامات في وجوهُنْ. (وغمز بعينه وأضاف) وعلى فكرة، كمان أهل البخل التقتير اللي متل حضرتك إلهن علامات!

قال أبو محمد موجهاً كلامه إلى أبو زاهر: إذا منبقى على كلام أبو جهاد وأبو الجود ما منستفيد شي. منشان هيك بدي أسألك سؤال.
قال أبو زاهر: تحت أمرك. تفضل.
قال أبو محمد: سمعت منك في الجلسات الماضية قصص عن الضرب والتعذيب والإهانات اللي بيتعرض لها السجناء في سجن تدمر. بس ما عرفنا شي عن بقية الأمور. يعني أشو الوضع بالنسبة للأكل والنظافة وهيك شغلات؟

ضحك أبو زاهر وقال متهكماً: كل شي في سجن تدمر عال العال. ويمكن الأكل اللي عاملتو أختنا أم محمد لو حَطُّولْنَا إياه ونحن في تدمر كان ممكن ما يعجبنا، وممكن نرفضو ونعمل إضراب عن الطعام!

لاحظ أبو الجود أن أبو زاهر أدخل الموضوع في نطاق "المزاح" فقال: أبو زاهر عم يحكي صح، أنا سمعت أنو في سجن تدمر بيتقصدوا يعملوا للسجناء أكلات معقدة. يعني من يللي بتحتاج لَعَجْنْ، ودَهْن بالزيت والسمن، ورَقّ بالشُوْبَكْ، وحشي باللحم المفروم والصنوبر.. بتعرف متل أيش؟

قال أبو محمد مبتسماً: متل أيش؟
قال أبو الجود: متل السنبوسك والششبرك والأوزي وعش البلبل والكبب، ما عدا الحلويات اللي بتجي بعد الغدا، سوار الست وقطايف وكنافة نابلسية وشعيبيات ومبرومة بالفستق الحلبي..
أراد الأستاذ كمال أن يشارك في رسم الصورة الكاريكاتورية التي بدأها أبو زاهر فقال: إدارة السجن بتتقصد إطعام المساجين حلويات، باعتبار أنهم بيخوضوا خلال اليوم بنقاشات فكرية معقدة، وبيعملوا عَصْف ذهني، وهاد الشي طبيعي، لأنو الحلوى بتعطي للجسم حُرَيْرَاتْ لا بد منها لاستمرار الحياة.

قال أبو زاهر: أنا خايف أحكي لكُنْ عن الطعام تبع السجن وتصد نفسكن عن الطعام. أشو رأيكن نأجلها لوقت تاني؟
قلت: عطينا رؤوس أقلام إذا بتسمح.
قال: حاضر. يا سيدي الكريم في سجن تدمر بيقدموا للسجناء طعام واحد لمدة أربع سنوات متواصلة. مثلاً: البطاطا.

لاحظ دهشتنا الشديدة فتابع يقول: كلياتكن بتعرفوا أني ما بكذب ولا ببالغ. الصبح بطاطا مسلوقة، وعلى الغدا بطاطا مطبوخة، والعشاء بطاطا مقلية. هذا البرنامج بيستغرق أربع سنين، يعني 1460 يوم من دون فاصل منشط. وللعلم فإن البطاطا المطبوخة ما بيحطوا لها مرقة البندورة، ولاكن، باعتبار أنها مقلوعة من الأرض وفيها طين، بتلاقي الطين يذوب في المي أثناء الطبخ.. وعلى فكرة، ورغم رداءة الطعام كانت كميته ما بتشبع أي إنسان. وأنا مضيت 16 سنة في السجن ولا مرة شبعت.

وللحديث صلة

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...