التعاقد... منطق مقاولات بائس

التعاقد... منطق مقاولات بائس

17 مارس 2019
+ الخط -
لا نريد لعب دور الاستراتيجيين والمنظرين الكبار في مجال التعليم، الذين يرددون باستمرار أن دور التعليم والتربية بالغ الأهمية، وحاسم في حياة الشعوب، سيكون من اللغو إذن ترديد وتكرار مثل هذه العبارات والشعارات الرنانة، فالأمر معروف وبيّن بذاته لا ينكره سوى جاحد أو مختل.

الأمر الذي دفعنا لكتابة هذه الأسطر هو التذكير بمسألة بسيطة لا تعقيد فيها ولا غموض يلفها، وهي أن التعامل مع قطاع التربية والتعليم بمنطق المقاولة وحسابات الربح والخسارة المادية، هو أمر غير مستقيم، ولا يمكن أن ينتج لنا غير جيش من الفنيين ضيقي الأفق ومحدودي التفكير. فرْضُ التعاقد على آلاف من الشباب قصد القيام بمهمة التربية وتنوير عقول الشباب والأطفال، قرار يكرس مرة أخرى منطق الرأسمالية المتوحش، الذي يجعل كل شيء مفتوحاً في وجه السوق التي لا تبقي أمواجه ولا تذر.

قد يعترض علينا البعض بالقول، أن التعاقد لم يفرض على أحد، وأن المعنيين وقعوا بكامل إرادتهم دون إكراه، بالإضافة إلى أنهم اطلعوا على جميع البنود التي يتظاهرون ضدها اليوم.

قول كهذا ينسى أو يتناسى الشرط الاجتماعي المغربي، ويُنَظّر كأن أمام الشباب اختيارات لا حصر لها عند تخرجهم من الجامعة، والحال أن الشباب المتخرج هو مدفوع بطريقة غير مباشرة للتوقيع على تلك البنود المجهولة (التي أتقن خبراء السوق صياغتها) ما دام هذا الشباب لا يجد اختيارات أخرى أمامه.


هذا إذن طرح غير واقعي، ويجتهد لكي يحصر القضية على كبرها وأهميتها البالغة في زاوية قانونية ضيقة جداً، ساهياً مرة أخرى عن أن القانون يضعه المجتمع ويغيره أيضاً هذا المجتمع إذا اقتضى الحال، خصوصاً إذا كان هذا القانون يهدد سلامة وأمن المجتمع برمته، لأنه لا يمكن التضحية بأشياء ثمينة كهذه من أجل صون قانون مجحف. القلة القليلة التي اجتهدت في وضع مثل هذه البنود لا يتقنون غير العمليات الحسابية، وبهذا جعلوا مصير أمة بكاملها في معادلة رياضية.

التعاقد شرط فرضه السياق الدولي الكوني، وبذلك فهو شيء حتمي يتجاوز الحدود الوطنية، لا يد للدولة فيه، دول عظمى تفوقنا تطوراً بكثير اعتمدته. هذه حجة الذين يعتبرون أنفسهم استراتيجيي الوطن. المقارنة هذه لا تستوفي أدنى شروط الموضوعية التي تفترض حينما نود عقد مقارنة بسيطة.

المغرب لم يعرف المدرسة بشكلها الحديث إلا مع الاستعمار الفرنسي، وعندما تحصل على الاستقلال تم رفع الشعار الشهير، التعريب، المجانية، التعميم. شعار رنان بدأت بوادر التراجع عنه مع التقويم الهيكلي منتصف ثمانينات القرن الماضي. هكذا استقبل المغرب المدرسة الحديثة، ولكن الدول التي نقارن معها أنفسنا انبثقت المدرسة الحديثة من عمق مجتمعها، وتطورت بشكل طبيعي في حضنها لقرون، حققت نوعاً من الإشباع المعرفي والتعليمي.

مسألة تعميم التمدرس لم تعد تطرح هناك منذ أمد بعيد، لذلك حتى وإن بدأ الحديث عندهم عن "التعاقد" فهو نتيجة لصيرورة تاريخية طبيعية. الأمر عندنا كما لا يخفى على أحد مختلف تماماً، فمازالت أمور من قبيل، تعميم التمدرس وحتى لغة التدريس تطرح دون الحسم فيها.

أشياء بسيطة كهذه هي المشاكل الحقيقية في نظامنا التعليمي، ونود مع ذلك الدخول في متاهة "التعاقد"، كان من الأفيد للجميع لو تعاقدنا جميعاً على أسس متينة لدمقرطة التعليم، وتصحيح مسار المدرسة المغربية التي أتعبتها القرارات الأحادية.

حينما نبين تهافت هذه الحجج التي تلوكها الألسن دون فهم و تمحيص، فإننا لا نستخف بعقول خبراء الأرقام واستراتيجيي السوق، وإنما تذكير بأن المدرسة ليست مقاولة، ولا يمكن أن تكون كذلك، وإن كانت فهي بذلك تتخلى عن رسالتها وأهدافها النبيلة التي تسمو عن منطق العرض والطلب.

ربما ليس المجال هنا لهذا القول، ولكن الرياضيات وحدها لم تحل أي مشكل إنساني. الإنسان أعقد من تقزيمه في أرقام، فهو أكبر من ذلك بكثير، الإنسان روح و إحساس ورغبات وأحلام وطموحات.. هذا الكل المركب.

حينما يدخل أستاذ قاعة الدرس ومستقبله مجهول، فماذا يمكن أن ننتظر منه؟ ألا يفكر هذا الأستاذ في مستقبله، ومصيره وطموحاته؟ أليس لهذا الأستاذ أحلام؟..
6A591B94-817F-4A6F-9BB8-5FD043426A26
6A591B94-817F-4A6F-9BB8-5FD043426A26
حسن إدحم

أستاذ في مادة الفلسفة ومهتم بالأدب

حسن إدحم

مدونات أخرى