عن الوطن والهجرة والحنين وآلام المهاجرين

عن الوطن والهجرة والحنين وآلام المهاجرين

13 مارس 2019
+ الخط -
لو عاش الشاعر أو الكاتب قصة حياة طبيعية لما احتاج إلى أن يسطر معاناته أو يقولبها، ولمارس حياته بشكل عادي، فحيث لا تكون هناك إثارة لا تكون هناك قصة، وحيث لا تكون هناك معاناة لا داعي لكتابة القصة!

ما دفعني إلى كتابة ذلك هو عذابات المهاجرين وتشظيهم بين وطنهم الأم وأوطانهم الجديدة.. ففي الهجرة اللبنانية مثلاً، والتي تعتبر من أوائل الهجرات في المشرق؛ إذ بدأت من خمسينيات القرن التاسع عشر، لم يرشح من أدب المهجريين إلا معاناتهم في انسلاخهم عن الوطن الأم وحنينهم إلى مساقط رؤوسهم، وهو حنين مشروع مع لبنان الجميل.

لكن كل تجارب المهجريين أفضت إلى عودتهم إلى موطن الهجرة، وسكناهم هناك واكتفائهم بالزيارة بعد أول محاولة فاشلة للعودة إلى لبنان.

وفي قصة حسين النس شاهدٌ؛ إذ حاول صاحبنا أن يعود للعيش في لبنان بعد هجرة طويلة إلى نيويورك، وكان يدعي أنه محامٍ ويقوم بتيسير معاملات الناس، ثم رحل إلى لبنان وبنى بيتاً جميلاً بمقاييس تلك الأيام، وزرع في حديقته كل أنواع الأشجار - تهدم البيت الآن - وحين كنّا أطفالاً، كنّا نقوم بالقفز من فوقه إلى الحديقة المجاورة التي ازدانت بأشجار الدراق والخوخ والتوت والرمان والزيتون وكل ما لذ وطاب من الثمار.

ولكن بعد فترة ليست بالطويلة من محاولة التأقلم مع الحياة في بلدة صغيرة مقارنة بنيويورك قرر حسين الرحيل، فقالت له والدته: ما لك يا ولدي؟ كنت تقول عن نفسك إنك "أوفوكاتو"، فكيف لا تستطيع أن تعيش هنا؟ فرد عليها: يا أمي، هناك، أنا كنت كاذباً واحداً بين مليون صادق، لم أستطع أن أسَّلك نفسي، هنا كلهم كاذبون!.. ثم رحل ولم يعد، تاركاً البيت والحديقة وأماً تبكي وحيدها كل الوقت.


والشاهد هنا أن أوطاننا يستحيل العيش فيها مع فسادها واختلافها الكلي عن أوطان الهجرة، ويجد المرء نفسه مضطراً للرحيل ثانية، وهذه المرة لن يعود أبداً إذ قد ضربته خيبة الأمل تاركاً وراءه جهد نصف عمره في منزل لن يعود إليه أبداً، وسيدفع للبقية الباقية من عمره ثمن صيانته وتعيين حارس يسكنه ويرعاه.

الأسوأ من ذلك، أنه في معظم الأحيان تترتب على علمية الانتقال هذه آثار سلبية جداً على الأولاد من حيث.. أولاً: نقل الصراع بين (هنا وهناك) إليهم مجدداً بعد أن كان مع الآباء، وفي حالات أخرى يكره الأولاد اللغة والثقافة وينقطعون بشكل كلي عن زيارة موطنهم الأساسي، والأثر الأسوأ هو في اختلاف مناهج التعليم وفي الضرر الذي يدفع ثمنه الأولاد في تخرجهم من مدارس لا تؤهلهم للالتحاق بسوق العمل في اختصاصاتهم، فينتهي بهم الأمر حملة شهادات يعملون في حقول أخرى يحسنها المهاجرون لأنها تدر الأموال السريعة؛ كالدهان والبناء وقيادة الشاحنات والتاكسيات وكل ما هو مرتبط بالإعمار بشكل عام، باعتبار أنها قطاعات يسهل الدخول إليها.

وهكذا تستطيع بكل سهولة أن ترى مهاجرين وأولادهم بشهادات عالية في قطاعات لا تمت لاختصاصاتهم بصلة. وفي حالات كثيرة اكتفى المهاجر بأن يعود للزيارة فقط، وكأن لبنان بلد مصيف فقط بالنسبة لكثيرين.

وفي الحديث عن أولاد المهاجرين لم أستطع أن أرى أياً من المخرجين الشباب يتطرق لتحديات التأقلم وتزويج البنات والشباب ببنات أجنبيات وشباب عرب، وقصة نصب الشباب والبنات في موضوع الكفالة.

هل هذا يعني تفاهة أجيالنا الشابة؟ أم أننا سريعو الاندماج؟ لماذا نرى فائضاً عندنا في قطاعات معينة؟ ونرى نقصاً فادحاً في قطاعات أخرى. هل تؤثر عملية تنقل الأولاد في مسيرة البناء التراكمي للاندماج في المجتمع وتعوق مسيرة محاولتهم مواجهة المعوقات والصعوبات والتحديات التي تعترضهم كعرب ومسلمين وكمهاجرين في مجتمع مختلف.

لا شك كما ذكرت أن عملية محاولة العودة تلقي بثقل اقتصادي كبير على الأب الذي يعود ليبدأ من الصفر تقريباً بعد أن أنفق كل ما كسبه في الفترة الماضية في بناء بيت الحلم في الوطن الأم، وبعد فشل التجربة سيعود خالي اليدين ليبدأ من جديد، وهذا معناه جهد أكبر وتفرغ أكبر تقابله خسارة أوقات كانت لتخصص لأمور أخرى لولا ذلك، منها مواجهة تحديات الواقع المهاجر.

لقد اقترحت قديماً أن يتم إنشاء هيئة توجيه لتوزيع طاقات الجاليات على قطاعات لدعم النفوذ والتغلغل في المجتمع، وعدم ترك ذلك للشباب الذي يضيع في كثرة الخيارات ولا يعلم الأنسب الذي يمكنه من الحصول على وظيفة جيدة ويخدم جاليته بنفس الوقت.

شاهدت قريباً فيلماً أميركياً أيرلندياً اسمه "بروكلين" عن هجرة بنت وقصة زواجها في الغربة من الإيطالي الذي أحبته رغم أنه سباك واندماجها مع المجتمع "النيويوركي"، وصراعها بين ذلك وعودتها إلى الوطن الأم وزواجها ممن تريد أمها وهو المصرفي الثري.. لماذا لم أر أعمالاً عربية كهذا تعبر عن مشاكلنا كجاليات.

فإما أن أولادنا اندمجوا وعبروا عن ذلك في لغتهم الثانية، وهذا ما لم يحصل، أو أننا لم نعلمهم لغتهم الأم بشكل كافٍ ليمكنهم التعبير عنها بصراحة، وهذا يعني أن هناك مكبوتات لا تخرج وأسراراً مدفونة لا تحكى، وليس هناك من مانع لخروجها إلا غياب اللغة القادرة عن التعبير عن ذلك، وهذا يعيدنا إلى مدلولات اللغة، وقدرتها على التعبير عن مكنونات النفس.. فهل حقاً يفتقر أولادنا في الغربة إلى الفكرة؟ أم هم يفتقرون إلى اللغة؟ أم هم مطمورون بالتفاهة؟!

لا أستطيع أن أتذكر محاولة جادة لتجسيد صراعات الشباب إلا مع "فوسي تيوب" المجسدة بيوسف عريقات وقوالبه التافهة التي تحمل بعض المضامين الجيدة، لماذا لا يتطرق أحد إلى مشكلة المخدرات؟ كون الكثير من أولادنا من بارونات التجار كما حصل مع المافيات الإيطالية في نيويورك وبروكلين. لماذا لا يتطرق أحد إلى مشاكل التربية والاندماج؟ لماذا لا يتحدث أحد عن تحديات سوق العمل لأولاد المهاجرين؟ عن العنصرية أحيانا والتمييز؟

في خاطرة أخرى سألت نفسي.. هل الحنين يكون للأرض، للبلد أم للأهل والأشخاص؟.. كما يقول الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديار

وإذا كان الحنين فعلاً يكون لهواء لبنان وصخور لبنان فإن صخور وجبال كندا وأميركا وثلوجها أجمل بكثير من جبال لبنان وصخوره، وقرى فرنسا وإيطاليا أجمل، حيث يسكن الكثير من اللبنانيين ولا يعودون إلا لزيارة أهلهم.. إن الحنين يكون للأشخاص، ومتى رحل الأشخاص ذهب الحنين معهم وبقيت الذكريات.

لو قمنا باحتمال أن يقوم المغترب ببناء مصيف في أي مصيف كندي، هل سيحل هذا مشكلة العودة باعتبار أنه تورط في بناء منزل على أرض ورثها ولا يستطيع عاطفياً بيعها، أو تقنياً لعدم امتلاكه أوراق ملكية! أم هي محاولة لإثبات النفس والبرهنة أنني ها أنا ذا قد نجحت في الغربة وبنيت نفسي وسأبني قصراً يعجز الآخرون عن بناء مثله؟

في كثير من الحالات تستطيع أن تتفهم انصراف المهاجر الأول عن التعبير عن همومه، فالمهاجر الأول يضع أفكاره جانباً ويتفرّغ لتأسيس مستقبله ثم يأتي الجيل الثاني فيتأقلم ويكتب أدباً ونثراً ولكننا لا نرى ذلك كثيراً في حالتنا هذه.

وتستطيع أن تجد بوضوح الكثير من التائهين اللا منتمين إلى مكان، فهم يعيشون ويعملون في مكان ولكن اهتماماتهم في مكان آخر.. أنا أعرف أشخاصاً يسكنون في المهجر ولكنهم لا يقرأون حتى صحف البلد ولا يهتمون لأخباره، ولا ينتخبون ولا يعنيهم وطن الغربة إلا في حدوده الضيقة، ويعيشون في غيتو منعزل بين مكالماتهم الدولية وعملهم، وعدد محدود جداً من الأصدقاء، وقد يموت أحدهم في الغربة قبل أن يعود إلى موطنه الأم، والمضحك المبكي أنه لو حاول العودة إلى مسقط رأسه فلن يستطيع التأقلم والعيش هناك، وسيعود ليمارس حياته بالمراسلة كما كان يفعل سابقاً!

هذه الطبقة التي تكبر يوماً بعد يوم سنقوم بتسميتها بالـ "placless people" أو الأشخاص اللا منتمين أو اللا مكانيين.. وهي ظاهرة تكبر ولها حياتها وهمومها ومشاكلها، وقد تناولها جزئياً فيلم لجورج كلوني اسمه "up in the air".

وحتى حين تعمد بعض الجاليات إلى تشكيل إطاراتها الاجتماعية والسياسية فإن مشاكل وآفات العمل الاجتماعي في الوطن الأم تصيب المؤسسات، وتنتقل سريعاً عدوى الديكتاتورية والفساد وغيرها من الأمراض إلى مؤسسات الجاليات مما يتسبب بانصراف الأجيال الجديدة عنها.

فمتى ستظهر أجيال تعبر فعلياً عن هموم ومشاكل جالياتنا حيث هي، ولا تكون استنساخاً لما في الوطن الأم؟
7F7C2416-B720-4906-ACFE-73D4127D7B5F
حسن علي مرعي

درست الشريعة في "أزهر لبنان"، فرع البقاع، ثم درست الحقوق في الجامعة اللبنانية، وأتابع دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في معهد ماستشوسش التقني وجامعة وست فرجينيا..أهتم بالأدب، شعره ونثره بالإضافة إلى العلوم السياسية والتاريخية، ولا يقلل هذا من اهتماماتي بالتاريخ أو بالاقتصاد وسائر العلوم الإنسانية الأخرى.