في بلاد النعيم!

في بلاد النعيم!

12 مارس 2019
+ الخط -
بعد أن قضيت، في رحلتي الأخيرة، إلى الولايات المتحدة الأميركية، في ولاية لويزيانا أكثر من عام ونيّف، فضلاً عن الرحلات التي سبقتها والتي تجاوزت أكثر من ست عشرة رحلة جوية، والعمل في إحدى المحال التجارية العربية هناك..

ألحَّ عليَّ بالاتصال صديق عزيز، يتابع أخباري، وقال لي معلقاً على الواقع المعيشي الذي أعانيه، والساعات الطويلة التي أقضيها في العمل لقاء أجر محدود وزهيد نسبياً، بالكاد يكفي مصاريف معيشتي، وما بقي منه أرسله إلى أسرتي المقيمة في مدينة اللاذقية السورية، بعد أن هجروا الرَّقة، مدينتي الرئيسة، بسبب الأوضاع الأمنية السيئة، وكثرة القتل والدمار، وانتشار العصابات المسلحة، وغياب الحياة الهنيئة، وضيق ذات اليد، وصعوبة الإنفاق المادي، وتردي الواقع الخدمي الذي دفع بأغلب الأهالي إلى النزوح عنها وهجرها!

وكان العمل الذي أقوم فيه في لويزيانا الأميركية، الذي بقيت فيه لبعض الوقت، فيه من الصعاب والسهر ما يكفي، ما اضطرني، مكره أخاك لا بطل، إلى اللحاق بركب مواكب اللاجئين، الذين تركوا مدنهم وقراهم وتوافدوا إلى بلاد الله الواسعة التي احتضنت أطيافاً كثيرة منهم..

وكنت في فترات المساء اليومية أراجع حساباتي، بعد أن أكون قد نمت بعض الوقت بعد انتهاء الفترة المجهدة التي أقضيها في العمل الطويل، ألجأ إلى الاتصال ببعض الأصدقاء المقرّبين الذين وصلوا إلى بلاد النعيم الأوروبية، وهم في طريقهم إلى الاستقرار فيها بعد أن قطعوا آلاف الكيلومترات، هرباً من الموت الزؤام والواقع المرير الذي يعانون، وكنت أجري اتصالي يومياً مع عدد كبير منهم، لقاء معرفة مصيرهم والأماكن التي يقيمون فيها، والدول التي تكون أكثر قرباً إلى القلب من غيرها، وكانت وجهتي السفر إلى النمسا، لا سيما أنها من الدول الأوروبية الأكثر رقياً وهدوءاً، فضلاً عن طبيعتها الخلاّبة، والحياة الآمنة فيها، وتحليها بالطقس الجميل القريب جداً من طقس سورية - البلد الأم.


وكان اتصالي المتكرر، مع صديقي الذي وصل مؤخراً من الرّقة وحطت أقدامه مدينة سالزبورغ رابع أكبر مدينة في النمسا، وتصويره لي واقع الحياة فيها عبر عدسة موبايله الشخصي، وكيفية تعامل أهلها مع اللاجئين، والخدمات والمزايا التي يقدمونها إليهم، والترحيب بهم، وإجراءات الإقامة السريعة التي تمنح لهم، ولمّ شمل أسرهم، ناهيك عن مساعدتهم مادياً، وتوافر الراحة التي يقضونها بعيداً عن برامج العمل وصعابه، كل هذا ما دفعني إلى ترك العمل الذي أقوم به، في لويزيانا، والاتجاه عكس عقارب الساعة إلى النمسا، حيث الاستقرار والعيش برغد.

صارت الصورة تتضح جلية كضوء الشمس، ورغم تعدد مراكز اللجوء، وتوزعها في أوروبا وفي أميركا، وفي غيرها من البلاد الأخرى التي رحّبت بهم وآوتهم، واحتضنت معاناتهم، إلا أنها أصبحت أكثر وضوحاً، بعد دراسات معمّقة، وسؤالي المتكرّر عنها، كل ذلك دفعني وشجعني إلى السفر وطلب اللجوء في النمسا، والحصول على الإقامة الدائمة فيها، وبعد إجراءات استكمال لمّ شمل الأسرة، وبرنامجها الطويل والمعقد، وهذا ما يعني دفع مبالغ مالية كثيرة لجهة استكمال إجراءات السفر من أميركا حيث إقامتي، والمغامرة إلى أماكن الإيواء..

أخذت الفكرة حيزاً مهمّاً من حياتي اليومية، وشارحاً ذلك إلى الصديق العزيز أبو حسن الذي أقمت معه في نفس السكن الذي أقيم في لويزيانا، فترة مبعدة من الوقت، ونتيجة خوفه عليَّ، حاول جاهداً إزالة فكرة السفر عن ذهني وفرملتها نهائياً عن رغباتي، باعتبارها صارت الهدف الأسمى، وإلحاحه عليّ والبقاء في أميركا لا سيما أنها تظل حلم كل إنسان يحاول الوصول إليها والعمل فيها، إلا أنني، ومن وجهة نظري الشخصية، كانت قناعتي في السفر إلى خارج حدودها هو الحل الأمثل، رغم عبثيتها وصعوبة اتخاذ القرار الحسم، وهذا القرار سيحقق لي، وإن كان ذلك يتطلب وقتاً ليس بالقصير لتحقيقه بلقاء الأهل والأحبة، والإقامة معهم تحت سقف واحد بدلاً من الحال الذي أنا عليه، على الرغم من توافر فرص العمل والدخل المالي المرضي الذي يمكن أن أجنيه من عملي في حال ظللت فيها، ولكن ذلك لم يعد يعني لي شيئاً حيال اللقاء بأسرتي والعيش إلى جانب زوجتي وأولادي، ما جعلني أقبل على السفر، وبشوق كبير، متحدياً كل الصعاب قاطعاً بذلك آلاف الأميال، والعودة إلى بلاد النعيم التي ظلّت، وحتى وقت قريب، تستقبل آلاف اللاجئين السوريين وغيرهم ممن ظلمتهم يد الغدر وأرّقت مضاجعهم، مرّحبين بهم، ومهيئين كل سبل الراحة والمستقبل المشرق لهم ولأسرهم.

ظلّت الصورة الضبابية تطل برأسها على مستقبلي وخوفي حيال هذه المغامرة الجديدة بالنسبة لي، وأنا الذي لا أملك خياراً آخر سوى ركوب المجهول تاركاً بلاد العم سام، والسفر إلى النمسا.

حجزت بطاقة السفر، بعد أن أعلمت صديقي أبو حسن الذي أقيم معه، وسبق أن عشنا في بيت واحد ولفترة طويلة وأسرتي في سورية، بموعد السفر والاتجاه إلى موكب اللاجئين معللاً ذلك بلم شمل الأسرة مستقبلاً، واللقاء بأبنائي بعد غياب وعناء كبيرين!

في مطار لويزيانا كانت الصدمة الأولى، وهي مشكلة وزن الحقائب الزائد التي كانت أولى المعضلات التي واجهتها رغم معرفتي بذلك مسبقاً وتداركه قبل وصولي المطار، ما اضطرني إلى شراء حقيبتين جدد لحل مشكلة ما بحوزتي من ملابس وخلاف ذلك، ما جعلني أعيد ترتيب الحقيبتين وحمل ما سعته في أصغرها أقل من عشرة كيلوغرامات، فضلاً عن جهاز الكومبيوتر المحمول وأمتعة إضافية إلى مقصورة الطائرة، والبقية ستظل في الحقيبة الكبيرة التي ستصل إلى مطار إسطنبول الدولي، وتنتظرني هناك!

وفي حقيقة الأمر، فإن سير رحلتي سيتوقف في مطار فيينا بصورة نهائية، وفي مطارها سأقوم بتسليم نفسي إلى عناصر الشرطة الذين سيقومون بدورهم بترحيلي إلى مركز اللجوء الذي يتبع للمطار، ومنه إلى مركز اللجوء الرئيسي الخاص باللاجئين القادمين الجدد.

وبالفعل، ركبت الطائرة المتجهة من لويزيانا - فيينا، فيينا - إسطنبول. وصلت مطار فيينا مع ساعات الصباح الأولى بعد أن قضيت ما يزيد عن الثماني ساعات سفر متواصلة. وبعد أن ظللت داخل المطار في بهو الترانزيت أكثر من عشر ساعات اتصلت مع عدد من الأصدقاء بهدف إعلامهم عن وصولي، وسؤالي عن الإجراءات التي سأقوم باتخاذها قبل تسليم نفسي إلى عناصر شرطة المطار، وقالوا لي ما عليك سوى تسليم نفسك إلى مخفر الشرطة ليصار إلى تحويلك إلى مركز اللجوء، إنها إجراءات عادية جداً، وقبل ذلك حاول التخلّص من جواز سفرك، وبطاقة صعود الطائرة في مقطعها الثاني فيينا ـــ إسطنبول.. وتذرع بأية حجج واهية.

انتظرت مطولاً، وأبقيت على جواز سفري كإثبات معترف به رغم أنه لدي الكثير من الوثائق غيره، إلاَّ أنَّ جواز السفر يبقى وثيقة إثبات دامغة لمثل هذه الحالات. حاولت المشي داخل أروقة المطار علني ألتقي برجل شرطة شارحاً له وضعي، وأنني سوري الهوية وقادم من أميركا وجئت طالباً اللجوء الإنساني في النمسا.

بالفعل لمحت رجل شرطة، وأشرت إليه إلى مضمون ما خطته يدي على الورقة التي بيدي، ولم ينبس ببنت شفه. ذهبت برفقته إلى مركز الشرطة داخل المطار وهناك بقيت لأكثر من أربع ساعات لإتمام الإجراءات المطلوبة بطالبي اللجوء، وبعدها تم نقلي مع طالب لجوء آخر إلى مركز إيواء قريب من المطار.

بقيت يومين اثنين مقيماً في مركز الإيواء الخاص باللاجئين، وبعد إجراء التحقيق الأولي معي وأخذ الصور الشخصية المحددة، تم تحويلي مع عدد من اللاجئين الى "تراس كيرخن"، مركز اللجوء الأساسي في العاصمة فيينا، الذي قام بدوره، بعد قضاء ثلاثة أيام بلياليها ضمن أروقته، وبعد إجراء الفحوصات الطبية والصور الشعاعية الأولية، ومعالجة من يعاني من وعكة صحية أو من مرض ما، بفرزنا وإرسالنا إلى مدينة "غراتس" التي تبعد عن فيينا نحو ساعتين ونصف بالباص.

في ذلك المكان أقمنا مع عدد من اللاجئين، وأغلبهم من السوريين فترة استمرت لأكثر من سبعة أشهر ونيّف، وبعدها تم تحويلنا إلى محكمة اللجوء التي أصدرت قرارها بمنحي حق الحماية الدولية، الإقامة الدائمة، وانتقلت للإقامة في مدينة فيينا، وبعد مرور ما يزيد على الثمانية أشهر، وبعد إجراء تقديم أوراق لمّ شمل الأسرة وإرسالها إلى السفارة النمساوية في بيروت التي بدورها وافقت على مقترحات إجراءات لمّ شمل الأسرة التي نالت نصيبها من المعاناة وشظف العيش، فضلاً عن الابتزاز الذي تعرضت له من قبل المسؤولين الأمنيين السوريين بدفع المعلوم لقاء تهديدهم بسحب جوازات سفرهم واختلاق ذرائع واهية لأجل فرملة وإعاقة سفرهم، إلا أنه وبفضله تعالى تم تجاوز كل هذه الصعاب، وتحول الحلم إلى حقيقة واقعة.

طبيعي أنَّ ذلك لم يأتِ عن عبث وإنما نتيجة متابعة مستفيضة، ومعاناة، وجهد إضافي بذل لقاء لمّ شمل أسرتي والسعي من أجل اللقاء بها بعد سنوات من الغياب والمعاناة، وفي هذه المتابعة يمكن أن نقول أنه صدق من قال: "أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة".. وهذه إرادة الخالق سبحانه الذي يسّر لي ولأسرتي خطوات السفر، وحقق لي ما كنت أصبو إليه باللقاء بهم بعد غياب، وها نحن اليوم نعيش حياة حرة كريمة قوامها المحبة والألفة، وإن كنا بعيدين عن الأهل الذي يظل لغيابهم غصَّة وألم..

وحدهم من بقوا في أرض الوطن، يتحملون مرارة العيش الذليل والفاقة والمعاناة التي لا يمكن لها أن تتوقف، بل تزداد بؤساً وحزناً يوماً بعد آخر!
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.