المؤذن الأخرس

المؤذن الأخرس

10 مارس 2019
+ الخط -
ونحن صغار كنا نتسابق على أداء دور المؤذن في المساجد الصغيرة القريبة من بيوتنا، التي لم تكن خاضعة وقتها لرقابة وإشراف وزارة الأوقاف، كان دور وأداء المؤذن يجذبنا نحن الصبية الذين لم تكد أعمارنا تزيد عن الثامنة، ربما لأننا كنا صغاراً ونريد أن نقلد الكبار في سلوكاتهم، أو نريد أن نسمع نحن الصغار صوتنا لأكبر عدد من الناس من خلال الميكرفون ذي الصوت العالي الذي عرفته القرية حديثاً وكان يصل صداه لأقصاها، بل وأحياناً ما كان يصل إلى الحقول المحيطة بالقرية من كل جانب، وربما نقوم بدور المؤذن لنثبِّت للكبار أننا بتنا "رجالة" ولسنا أطفالاً أو "عيال" كما كان يتم معايرتنا دوماً، وخاصة عندما يطلب منا شخص كبير في السن أداء دور أو مهمة لا تتناسب مع عمرنا وجسدنا فلا نقدر عليها، فيقول لك الكبير متهكماً "أنت عيل.. روح إلعب"، وهي الكلمة التي كانت تستفزنا نحن الصغار ونريد أن نكبر في السنّ بسرعة أو نقلد الكبار حتى نتخلص منها.

كان دور المؤذن يستهوينا نحن الصغار ويداعب خيالنا الخصب، ويستهوينا أكثر مع سماع قصص خطيب المسجد وهو يروي حياة الصحابي الجليل بلال بن رباح مؤذن النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وكيف اعتلى بلال الكعبة ليؤذّن فوقها عندما أمره النبي بذلك يوم فتح مكة، وكيف أن النبي كان يقول له عن الصلاة "أرحنا بها يا بلال".


كما كان الكبار يداعبون عقولنا عندما يشرحون لنا كيف أن المؤذن له مرتبة عالية في الجنة، وكيف أن فلان مات وهو يردد "حي علي الصلاة"، وأنه في الجنة الآن ينعم بخيراتها، وأن آخر ما قاله الجد فلان "لا إله إلا الله"، ولذا هو الآن يستمتع بحور الجنة.

قبل كل صلاة، كنا نسرع الخطى إلى المساجد القريبة للفوز بالأذان، كنا نحاول تقليد أصوات كبار المؤذنين في مصر، أمثال المشايخ محمد صديق المنشاوي، عبد الباسط عبد الصمد، مصطفى إسماعيل، محمود خليل الحصري، علي محمود، سيد النقشبندي، محمود علي البنا، راغب مصطفى غلوش وغيرهم، وكان الصوت الذي يستهوينا أكثر من غيره صوت الكروان الشيخ محمد رفعت الذي ارتبط في أذهاننا بأنه مؤذن المغرب في شهر رمضان، ففي الراديو وبعده التلفزيون كان الشيخ رفعت يلامس قلوبنا قبل آذاننا ويعلن موعد الإفطار في الشهر الكريم.

ومع المزايا الروحية التي كنا نسمعها عن مرتبة المؤذن في الجنة، كان السباق يزداد بيننا نحن الصبية على الفوز بهذه المرتبة، وازدادت المنافسة بعدما دخل التيار الكهربائي القرية ومعها الميكرفونات الحديثة العالية الصوت.

واستمر الحال على ذلك إلى أن كبرنا وتم ضمّ المساجد الأهلية والصغيرة لوزارة الأوقاف، ومعها تسابق الفلاحون والمزارعون على الفوز بتعيين مؤذن في المسجد الذي يقع بالقرب من منزله، كان العديد من الفلاحين يلجأون لوسائط المسؤولين وأعضاء مجالس الشعب والشورى والمحليات لمساعدتهم في التعيين في هذا المنصب والالتحاق بالحكومة والتمرغ في خيل الميري، لدرجة أن بعض الفلاحين باعوا جزءاً من أرضهم لدفعها رشوة لصاحب نفوذ لمساعدته على إلحاقه بهذه الوظيفة السهلة، كما باع البعض أراضي لبناء مسجد بجوار بيته أو أرضه، وبالتالي يحق له التقدم لمنصب مؤذن المسجد الذي بناه.

وتمر السنوات ومعها يزداد الفساد في وزارة الأوقاف، أغنى وزارة في مصر، إلى أن وصلنا لمرحلة المؤذن الإلكتروني، وكما وصلنا إلى مرحلة المأذون الشرعي الفرفوش والفرفور والمودرن وصلنا لمرحلة المؤذن الأخرس، وهي الحالة التي كشف عنها قبل أيام عضو لجنة الفتوى العليا بالأزهر الشريف سعيد نعمان، الذي أكد في حوار تلفزيوني أن هناك مؤذناً في وزارة الأوقاف أبكم، قائلاً: "أقسم بالله العظيم يوجد مؤذن في وزارة الأوقاف أخرس ومتعين بالرشوة، ولن أستطيع أن أقول اسمه".. ويكمل: "أنا أقسمت بالله وأنا رجل واعظ أول وعضو لجنة فتوى وحافظ القرآن".
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".