الجنرال العربي والسلطة... سياسة البقاء للأقوى

الجنرال العربي والسلطة... سياسة البقاء للأقوى

10 مارس 2019
+ الخط -
عادت ثنائية الجنرالات والسلطة والحكم العسكري ضد نظيره المدني للساحات العربية مؤخرا خاصة في ظل الأحداث الأخيرة المثيرة في كل من الجزائر والسودان وتبادل الأدوار الذي يحدث في موريتانيا بين الرئيس الجنرال المنتهية ولايته وزير دفاعه الجنرال.

في الجزائر، يخرج الشعب ثائرا لكرامته غاضبا من رئيس يرشح لولاية خامسة من داخل غرف العناية المركزة ليفرض فرضا على الناس وهم له كارهون.. فيخرج عليهم رئيس أركان البلاد ونائب وزير دفاعها الفريق قايد صالح منذرا ومتوعدا وحاملا الشعارين المعهودين مع كل ثورة عربية: "المؤامرة والإرهاب"..

والمؤامرة والإرهاب كلمتان حبيبتان على كل عسكري عربي مستبد أو طامع، خفيفتان على لسانه، عابرتان للشرق الأوسط العربي مروراً بمغربه العربي.. فالحرية في سورية مؤامرة والعيش بكرامة في السودان مؤامرة، وحق الاختيار في الجزائر مؤامرة..

لقد قالها الأسد لشعبه ذات يوم من مارس/ آذار إبان الثورة الموءودة، وكذلك فعل السيسي والبشير رافعين تلك الشماعة مع التلويح والتخويف بمصائر شعوب أُحرقت لأنها ثارت، لكأن الجميع يقرأ نفس البيان ونفس الكلمات ويرفع الشعار ذاته ويخوّف من المصير ذاته ويصم أذنيه عن صوت الشعب وحقه في الاختيار أسوة بنظيره وقرينه الجنرال العربي..

وإن كانت شماعة الجزائر حاضرة في أذهانهم لا تحتاج تذكيرا، فتلك عشريتهم حاضرة في خطاب قائد جيشهم ورئيسهم المفروض فرضا ولا يحتاجون للنظر إلى مصير سورية وتخويفهم منها.. وهم الذين ذاقوا مرارة الانقلاب وسطوة الجنرالات على الشعب.


والعشرية السوداء بنظر قايد صالح وزعلان والماسكين بزمام السلطة في الجزائر داء وعقدة لا علاج لها إلا بقاء بوتلفيقة حيا أو ميتا، صحيحا أو عليلا.. المهم أن تبقى السلطة في يد الجنرالات يتقاسمونها كيف شاؤوا ويعطونها لمن شاؤوا أو رضوا عنه ويجلسون على عرشها من يرون فيه مصلحتهم ومأمنا لهم من العقاب والمساءلة.

في جارة الجزائر موريتانيا، وإن كان واقعها أخف وأقل ضررا يحدث أن يعلن جنرال عربي في العصر الحديث احترامه الدستور وعدم رغبته في الترشح لولاية ثالثة، فيسعد الجميع ويفرح ويزف موقفه كموقف فريد من نوعه عربياً.

غير أن الفرحة ما تلبث أن يتعكر صفوها وتنقص في نفوس الشعب المتعطش للديمقراطية مع إعلان وزير دفاعه وشريكه في كل الانقلابات ترشحه للرئاسة.. فيبدوا الأمر محسوما قبل أن يبدأ ويتحول من لعبة ديمقراطية مكان حسمها الصناديق إلى لعبة عسكرية وتبادل للأدوار بين الجنرالات ملعبها الثكنات والقصور المحاصرة.. فالجنرال العربي هو حامي البلاد في نظرهم وهو من يحق له أن يحكمها لا غير.

ذالك حاضر عربي يتحدث عن تمسك الجنرال العربي بالسلطة وعضه عليها بالنواجذ، وهو يتوافق مع تاريخهم.. وحتى في تجارب تسليم بعضهم السلطة إلى المدنيين انقلب بعضهم عليها طامعا ومكرها ومتآمرا..

كما حدث حين سلم الجنرال السوداني سوار الذهب إبان ثمانينيات القرن الماضي السلطة لحكومة الصادق المهدي، فحدث أن انقلب عليها البشير وكذالك كان حال موريتانيا في العام 2007 حين سلم الجنرال إعلي ولد محمد فال حكم البلاد لأول رئيس مدني، فانقلب عليه الجنرال الرئيس الحالي للبلاد محمد ولد عبد العزيز..

ثم جاءت تجربة محمد حسين طنطاوي والإخوان والسيسي في مصر، وكان ما كان مما شاهده الناس وعرفوه كخاتمة لانقلابات الجنرالات على التجارب المدنية ورفضهم حكم الشعب عليهم.

ظاهرة استحقت الدراسة والتحليل وأُلفت عنها كتب، لعل أبرزها وأهمها كتاب صدر مؤخرا لأستاذ العلوم السياسية الأميركي زلتان باراني حمل عنوان: "كيف تستجيب الجيوش للثورات ولماذا؟"

بحث الرجل في كتابه عدة تجارب في أوروبا الشرقية وآسيا والمنطقة العربية وقارن بينها وكيفية تعامل الجنرالات فيها مع ثورات شعوبها ومدى استعدادهم لتسليم السلطة للمدنيين..

فرأى في كتابه أن بعض الجيوش اختارت تسليم السلطة للشعوب وانحازت لإرادتها كما حدث في بولندا حين سلم الجنرال السوفييتي يارولزسكي في تسعينيات القرن الماضي السلطة استجابة لمطالب الثورة العمالية التي قمعها سنوات معدودات، وكذلك فعلت جيوش أوروبا الشرقية إبان ثوراتها البرتقالية.

أما بلاد العرب، كعادتها فكانت معظمها، بحسب الكتاب، بين قامع لثورة شعبه كما هو حال مصر التي انقلب فيها الجيش على الثورة والثوار وقمعها. وفي سورية وليبيا انقسم الجنرالات بين مدافع عن الثورة وعدو لها يقابلها بالرصاص والبراميل المتفجرة.

اليوم، تنتفض السودان ضد البشير فيتمسك بالسلطة تمسك الإنسان بالحياة، ويحل كل شيء ما عدا نفسه ورغبتها في البقاء في الرئاسة، ويعاقب الجميع حكومة وشعبا باستثناء البشير.. فالبشير هو الأمن والاستقرار إن لم يكن هو السودان نفسه.

وتثور الجزائر ضد عهدة خامسة ظالمة بكل المقاييس، بعدما قيل خلال العهدة الرابعة أنها الأخيرة لرئيس أعجزه المرض.. فينقسم من يقفون وراء الكرسي من جنرالات ورجال أعمال وأشقاء بوتفليقة، ويهددون الثائرين من شعبهم بمصير سورية وشبح التسعينيات الذي ظل يطارد الجزائر كأنها هي الدولة الوحيدة التي شهدت حروبا أهلية ولا مفر لها من رئيسها إلا إليه..

وشعبها بين خيارين الموت السياسي أو الموت الحقيقي، وهو منطق تكذبه العديد من التجارب السابقة، ولعل رواندا خير حاضر ودليل على بلدان شهدت حروبا أهلية فظيعة ونهضت ولم يفرض عليها رجل واحد ولا تحكّم جنرالاتها في حاضرها وومستقبلها.

فمن يبلغ الجنرال العربي أنه هناك شعوبا تعيش معه لها حق الحياة والتنفس والاختيار؟

إنها ثنائية الجنرال العربي والسلطة في بلاد عربية تحكم أغلبها بالحديد والنار، ويعيش معظم سكانها تحت خط الفقر بسب الفساد، ويهاجر شبابها ومثقفوها خوفا من بطش الجنرال العربي وغضبه.. ثنائية ينتصر فيها الجنرال في أولها غالبا على شعبه حين يعتمد سياسة البقاء للأقوى فقط.

تكون الكلمة الفصل للشعوب في آخر المطاف، وذلك من كتب التاريخ وأحاديثه، فإذا تحركت الشعوب تحركت عجلة التاريخ وإذا سكنت توقف التاريخ عند سكونها، أو كذلك قال ابن بلد المليون الشهيد مالك بن نبي في كتابه أسرار النهضة.. وذلك لمن كان له قلب من جنرالات العرب أو ألقى السمع وهو شهيد.
D127B5A7-B6C4-4CC3-AB0D-021CE7601547
الشيخ محمد المختار دي

صحافي بفضائية القناة التاسعة وكاتب بمواقع عربية. حاصل على إجازة أساسية في علوم الإعلام والاتصال من معهد الصحافة بتونس، وعلى بكالوريوس أداب من جامعة نواكشوط، ومقيم في إسطنبول.