الطغاة لا يحبون الفن حتى لو أحبهم الفنانون (2-2)

الطغاة لا يحبون الفن حتى لو أحبهم الفنانون (2-2)

07 فبراير 2019
+ الخط -
كان كل من في الاتحاد السوفييتي من أدباء وفنانين يدركون أن فتك ستالين بهم لا يحتاج إلى مبررات أيديولوجية أو فكرية، كالتي كانت مثلاً وراء قرار إعدام جميع المغنيين الشعبيين العميان الذين تم استدعائهم من جميع قرى الاتحاد السوفيتي إلى مؤتمر في أوكرانيا، ثم تم قتلهم جميعاً لكي يتم القضاء على كل الأغاني الشعبية التي تشك السلطة في محتواها، وقد وجدت السلطة الستالينية أن ذلك أسهل من أن يتم إعطاء نصوص شيوعية معتمدة لأولئك المغنين العميان لكي يقوموا بغنائها.

لكن تلك الجريمة المفزعة كانت على الأقل تمتلك أسباباً أيديولوجية، وهو ما لم تحظ به جرائم أخرى ارتكبت في حق فنانين وأدباء، تم تدمير حياتهم لأن ستالين كان مغتاظاً من نجاح أحدهم أو حانقاً على شهرته، يقول الموسيقار ديمتري شوستاكوفيتش معلقاً على ذلك: "أحياناً كانت أتفه الأسباب كافية لإغضاب ستالين، كلمة طائشة. كان ستالين عنكبوتاً كل من يقترب من شباكه يجب أن يموت. البعض ممن لا يستحقون الشفقة، يلطخون أنفسهم بدماء الأبرياء، يتزلفون، ومع ذلك يموتون. لم يكن لدى ستالين أية أيديولوجية أو قناعات عقلية أو أفكار. كان يتقبل الآراء التي تسهل عليه الاستبداد بالآخرين، ولإبقائهم في خوف وشعور بالذنب. اليوم يقول المعلم والقائد شيئاً، وغداً يقول شيئاً آخر. لم يكن ليهتم بماذا قال، ما دام مستمراً بالسلطة. الطغاة والجلادون لا يلتزمون بأيديولوجية، لديهم فقط شهوة متعصبة للسلطة. كان كتاب سيرة ستالين الموجزة واحداً من كتابين قرب سرير كل مواطن سوفييتي في فترة ما بعد الحرب (الكتاب الآخر هو التاريخ الموجز للحزب) وكان من المعروف أن ستالين كتب جملاً في كتاب سيرته مثل: وبفطنة وحدة ذهن خمّن الرفيق ستالين خطط العدو وأحبطها، أو: كان الرفيق ستالين القوة المرشدة للحزب والدولة".

ستالين 


لا يخجل شوستاكوفيتش من الاعتراف بأنه كان خائفاً طيلة عهد ستالين، لأن "الخوف كان شعوراً مشتركاً بين الجميع وأنا لم أقصر في المشاركة فيه"، وحين سأله كاتب مذكراته سلومون فولكوف عن الشهادات التي زعمت أن الموسيقيين بالتحديد لم يتعرضوا للاضطهاد في عهد ستالين، كذّب شوستاكوفيتش تلك الشهادات التي روّجها بعض المنتفعين من سياسات ستالين وعلى رأسهم خرينيكوف رئيس اتحاد المؤلفين الموسيقيين السوفييت الذي قام ستالين بتعيينه في منصبه، وكان من أبرز أعداء شوستاكوفيتش، كان خرينيكوف يتحلى بجلافة لا تقل عن الجلافة التي يتمتع بها ستالين، الذي سبق أن قال لينين في وصيته السياسية عنه إن في شخصية ستالين نقيصة واحدة هي الجلافة، لكن قيادة الحزب الشيوعي لم تزح ستالين عن منصبه كزعيم للحزب، لأن الجلافة في اعتقادهم كانت شبيهة بالشجاعة، مع أنك على حد تعبير شوستاكوفيتش "لا يمكن أن تتوقع شيئاً جيداً من إنسان جلف في السياسة أو الفن، لأن الجلف يحاول دائماً أن يصبح ديكتاتوراً ويحاول قمع غيره".

محرقة أعداء الشعب
كان شوستاكوفيتش ساخطاً على الذاكرة الضعيفة التي يتحلى بها مواطنوه وزملاؤه من أهل الفن، ولذلك حاول أن يقاوم في شهادته تزوير التاريخ، حتى لو كانت شهادته ستصل إلى الناس بعد موته، ولذلك حرص على أن يتذكر أستاذه نيكولاي زيلاييف الذي تعرض للاضطهاد لمجرد أنه احتفظ في منزله بصورة كبيرة لصديقه توخاتشيفسكي، ولم ينزلها بعد أن تم إعدام صديقه بتهمة خيانة الوطن، مع أن الناس كانوا قد تعودوا في تلك الفترة على أن يقوموا بتدمير كل ما له علاقة بأي شخص تعتبره السلطات عدواً للشعب، فيتخلصون من كتبه وصوره بل ورسائله الشخصية، لأن احتفاظك بصورة لأحد أعداء الشعب أو برسالة منه يمكن أن يعرضك للموت، ولذلك يعتبر شوستاكوفيتش أن أستاذه زيلاييف كان بطلاً، لأن جلاديه حين رأوا صورة "عدو الشعب" توخاتشيفكسي في بيته، سألوه مستغربين لماذا لا زال يعلقها، ولعلهم توقعوا أن يعتذر لهم عن زلته التي أنسته حرق الصورة، لكنهم فوجئوا به يقول لهم بثقة وثبات: "سيأتي الوقت الذي ستنصبون له فيه تمثالاً".

يقول شوستاكوفيتش مستغرباً من تصديق الناس لأكاذيب خرينيكوف وأمثاله: "لقد نسينا بسرعة زيلاييف والآخرين. سيرجي بوبوف الذي اعتقلوه، نيكولاي فيجودسكي، بوليسلاف بشبيشفسكي، الذي كان مدير كونسرفتوار موسكو وكان ابناً لكاتب شهير، نسوا العالم في الموسيقى ديما جاتشيف الذي اعتقل لسببب غريب جداً، قرر أخذ استراحة بعد إكمال عمل صعب فذهب إلى مصحة حيث عاش في الغرفة مع عدة أشخاص، وقد وجد أحدهم صحيفة فرنسية قديمة، ولسوء حظ غاتشيف أنه كان يتقن الفرنسية، فتح الصحيفة وبدأ يترجم ما يقرأه بصوت عالٍ، وبعد عدة جمل توقف لأنه كان يترجم كلاماً منشوراً فيه أشياء سلبية عن ستالين، وقال "آه ما هذا الهراء"، لكن الوقت كان قد فات، اعتقل في الصباح لأن أحداً ما في الغرفة أخبر عنه، فعوقب بالسجن خمس سنوات، أمضاها بثبات في الأشغال الشاقة، وقبل عدة أيام من انتهاءها حُكِم عليه بعشر سنوات إضافية فحطمه ذلك وتوفي بعد وقت قصير".

يضيف شوستاكوفيتش قائلاً بمرارة: "سيقول البعض أنني أشوه الأمور وأن القائد والمعلم لم يكن لديه الوقت في تلك الأيام الصعبة للاهتمام بالسيمفونيات والإهداءات لكن السخافة هي أن ستالين يراقب الإهداءات على نحو أقرب من مراقبته شؤون الدولة. وهذا لم يحدث معي فقط فقد أخبرني ألكسندر دوفتيشينكو قصة مشابهة. لقد أخرج فيلماً وثائقياً أثناء الحرب، وبطريقة ما لاحظه ستالين، كان ستالين مهتاجاً، استدعى دوفتشينكو، وحين دخل صرخ بيريا في وجه دوفتشينكو أمام ستالين قائلاً: ألم تستطع أن تستبقي عشرة أمتارمن شريط الفيلم من أجل قائدنا؟ حسن ستموت مثل كلب"، وبمعجزة نجا دوفتشينكو من الموت. موردايلي الذي أزعجت أوبراه الصداقة العظيمة ستالين، برغم أنه كان يتصور أنها ستعجب ستالين. كان ستالين مهتما بوضع المؤلفين الواحد ضد الآخر وأن يدينوا بعضهم واستعان في هذه المهمة بشخص مثل جدانوف، الذي لم يتوجب عليه العمل بكد، فقد راح المؤلفون يمضغ أحدهم الآخر بجذل".

شوستاكوفيش 


الموهوبون في النفاق
كان أكثر من عاني منهم شوستاكوفيتش أولئك الذين يفتقرون إلى الموهبة في كل شيء إلا النفاق، والذين يحصلون بفضل مواهبهم في النفاق على مناصب إدارية، يستخدمونها لخنق المواهب ودفنها، في حين يروجون لأعمالهم التافهة، وكان على رأس هؤلاء خرينيكوف ـ الذي كان له من اسمه بالعربية نصيب ـ والذي يقول شوستاكوفيتش عنه: "لقد حاول جعل نهايتي أقرب، وأنا لا أحب القيل والقال بل أتحدث عن تحركات حقيقية". كان شوستاكوفيتش قد ارتكب خطئاً قاتلاً حين تصور أنه يمكن أن يقول رأيه بصراحة في أعمال خرينيكوف الذي كان يطلب رأيه باستمرار في أعماله، وحين كتب خرينيكوف أوبرا رآها شوستاكوفيتش سيئة، أرسل إليه رسالة طويلة ينتقدها بأمانة، فاعتبر خرينيكوف تلك الرسالة إهانة بالغة، وقال لكل من حوله إن شوستاكوفيتش يحاول حرفه عن الطريق الماركسي القويم ويجره إلى الشكلية في الموسيقى.

لم يكن خرينيكوف المقرب من السلطة سعيداً بتكليف ستالين لشوستاكوفيتش بعمل موسيقى للأفلام التي كان ستالين يشرف عليها بنفسه، واعتبر أن ستالين لا يفعل ذلك تقديراً لفن شوستاكوفيتش، بل يقوم به لأسباب سياسية تقرباً إلى حلفائه في مواجهة النازيين، الذين يعرف تقديرهم لفن شوستاكوفيتش، ولذلك قال خرينيكوف لأحد نقاد الموسيقى الذي مدح السيمفونية الثامنة التي كتبها شوستاكوفيتش: "حالما نتخلص من الحلفاء سنضع شوستاكوفيتش تحت ظفر إبهامنا". كانت السيمفونيتان السابعة والثامنة اللتان كتبهما شوستاكوفيتش، قد ظهرتا خلال الحرب العالمية الثانية ونجحتا نجاحاً كبيراً في دول الحلفاء، وكان شوستاكوفيتش حزيناً لأن السيمفونية السابعة بالذات أصبحت عمله الأكثر شعبية، لكنه كان يواسي نفسه بأن الناس في النهاية لن يدركوا رضا السلطة عنها، ولن يتذكروا ظروف خروجها إلى النور، بل سيتذكرون الموسيقى وحدها.

وبرغم أن نجاحه الموسيقي حقق له شهرة عريضة في العالم، إلا أنه كان يذكّر نفسه بأن هذه الشهرة لن تساعده، فقد كان ميرخولد وتوخاتشيفسكي أكثر شهرة منه، ولم تساعدهما الشهرة ولو بمقدار ضئيل، بل على العكس أضرت بهما. يفغيني زامياتيين مؤلف رواية (نحن) الشهيرة لم تفده أيضاً شهرته الواسعة في الغرب، حيث تم وسمه بأنه معادٍ للثورة، ولولا أنه لجأ إلى ستالين مباشرة واستعطفه ليسمح له بالهجرة، لما كان قد نجا من حملات التخوين والملاحقة. آنا أخماتوفا الشاعرة الشهيرة في العالم كله، تعرضت لحملات عاتية قادها أندريه جدانوف الزعيم الشيوعي والمنظر الماركسي في الأدب والفن، والذي كان يصفها بإنها إما راهبة أو بغي أو كلتاهما معاً، وأنها تمزج الزنا بالصلاة وتنشر أفكاراً مخزية حول دور المرأة، لتنطلق ضده حملات كاريكاتيرية ترسمها كبغي وراهبة، ولم تفدها شهرتها في وقف تلك الحملات العنيفة.

وحين أصبح نجاح السيمفونيتين السابعة والثامنة بمثابة سكين في حنجرة خرينيكوف ورفاقه من الموظفين عديمي الموهبة الذين اعتقدوا أن شوستاكوفيتش يحجب الضوء عنهم وينتزع الشهرة منهم، عزموا على تدميره وأصبح كل نجاح يناله مسماراً جديداً في نعشه، ولذلك كانوا في غاية السعادة حين عرفوا أن ستالين انزعج بشدة من سيمفونية شوستاكفويتش التاسعة التي ظهرت بعد الحرب، والتي كان ينتظر أن تكون تأليهاً لستالين بعد أن كسب الحرب، لكن ستالين لم يجد فيها التأليه الذي كان ينتظره، بل وجد موسيقى خالصة لم يفهمها، فاعتبر أنها تتضمن محتوى مريباً، وحين التقط كلاب السلطة غضب ستالين، بدأوا في شن الحملات على شوستاكوفيتش التي لم تقتصر على سيمفونيته التاسعة، بل امتدت بأثر رجعي إلى السيمفونية الثامنة التي تم اتهامها بأنها ضد الثورة وضد السوفييت.

السفر بأمر الزعيم
كان شوستاكوفيتش يدرك جيداً ما كان مطلوباً منه لكي ينال رضا ستالين، ولكي يأمن من أذى رجاله، لكنه كما يقول لكاتب مذكراته: "لم أستطع كتابة تمجيد لستالين، لم أستطع ذلك ببساطة، وكلفني عنادي الشيء الكثير، لم أحاول أبداً تملق السلطات في موسيقاي، ولم أقم أبداً علاقة معهم، لم أكن مفضلاً لديهم، على الرغم من أن البعض اتهمني بذلك"، ولأن ستالين بعد انتهاء الحرب لم يعد بحاجة إلى التأثير على الحلفاء، فقد بدأ على الفور حملة ضد تملق الغرب، وبدأت من جديد الاعتقالات والإبعادات، وزاد النظام من رقابته على الثقافة، وعادت أعمال شوستاكوفيتش لتختفي من برامج الحفلات الموسيقية، وعادت الصحف لتمتلئ برسائل العمال التي تدين موسيقاه، لينسحب شوستاكوفيتش إلى داخل قوقعته من جديد، ويكتفي بمراقبة الأحداث من بعد.

في تلك الأجواء الخانقة، تم توجيه دعوة إلى شوستاكوفيتش لكي يحضر المؤتمر الثقافي العلمي من أجل السلام العالمي في نيويورك، فقرر أن يعتذر عن الحضور، وبدأت الصحافة العالمية تكتب عن قراره بالاعتذار وتربطه بما يجري له داخل الاتحاد السوفييتي. لم يكن ستالين في ذلك الوقت بحاجة إلى مثل تلك الدعاية السلبية، لذلك فوجئ شوستاكوفيتش أن ستالين يتصل به شخصياً ليسأله عن سر اعتذاره، فقال شوستاكوفيتش له بذكاء شديد إن موسيقاه وموسيقا بعض زملائه لا تُعزف في الاتحاد السوفييتي، وإنهم سوف يسألونه عن ذلك في أمريكا، ولن يعرف كيف يجيب على ذلك السؤال، ليتظاهر ستالين بالمفاجأة ويسأله عن سر عدم عزف أعماله، فيقول له شوستاكوفيتش إن هناك قراراً من الرقابة بوضعها داخل القائمة السوداء، فيسأله ستالين متذاكياً عمن أعطى الأوامر، مؤكداً أن قيادة الحزب لم تعط الأمر بذلك وأن الرقابة ربما بالغت، وأنه سيصحح ذلك الخطأ على الفور، وحين اعتذر له شوستاكوفيتش عن السفر لأنه يشعر بالغثيان الذي يمنعه من ركوب الطائرة، وعده ستالين بأنه سيرسل طبيباً لعلاجه من الغثيان، فأدرك شوستاكوفيتش أن إصراره على الاعتذار سيذهب به إلى مجاهل سيبيريا على الفور، فوافق على السفر.

كانت الرحلة تجربة بائسة بالنسبة لشوستاكوفيتش، الذي شعر أنه بيدق في لعبة سياسية هزلية، ولذلك جرحته عدوانية المراسلين الأميركيين الذين حاولوا أن ينتزعوا منه تصريحات معارضة لستالين دون أدنى تفكير في مصيره ومصير أسرته، وقوى ذلك من موقفه المعادي لانتهازية الغرب، خصوصاً حين تذكر كيف كان كبار الفنانين والأدباء الغربيين يقومون بتمجيد ستالين خلال فترة تحالف الغرب معه، ويتطوعون بإنكار وجود أي انتهاكات لحقوق الإنسان، ثم بعد أن بدأ صراع الغرب مع ستالين، أصبح مطلوباً منه كفنان أن يضحي من أجل إثبات وجهة نظر الغرب،. في مناسبة أخرى، وحين أرسله النظام لحضور مهرجان إدنبرة عام 1962، سأله صحفي غربي: هل صحيح أن انتقاد الحزب الشيوعي ساعدك على النجاح، فأجابه بعصبية: "نعم نعم لقد ساعدني الحزب وكان دائماً على صواب، كان دائماً على صواب"، وحين تركه الصحفي التفت نحو صديق له وقال: "ابن العاهرة ألا يعلم أنه لا ينبغي أن يسألني مثل تلك الأسئلة، ما الذي كان باستطاعتي قوله"، ليعلق قائلاً لكتاب مذكراته على مثل هذه التصرفات "نحن نعيش في عالم خال من الرحمة، عالم يرى الفنان كمصارع من روما القديمة ونطلب منه بكلمات بوريس باسترناك: الموت الكلي، فيمتثل الفنان ويقدم موته ثمناً لإنجازه".

لا أرى سوى الخرائب
ربما كان من حسن حظ شوستاكوفيتش، أن ستالين توفي بشكل مفاجئ في عام 1953، قبل أن يحين موعد البطش الكامل به، خصوصاً وقد أخرت شعبيته العالمية من التنكيل المادي به، لكنها لم تمنع من التنكيل به أدبياً ومعنوياً، وحين بدأت حملة خروتشوف ضد الستالينية، عاد شوستاكوفيتش ليمارس نشاطه العام، فكتب ووقع التماسات لرد الاعتبار للموسيقيين الذين أرسلهم ستالين إلى معسكرات الاعتقال، وبدأ في محاولة مساعدة الذين بقوا أحياء من الموسيقيين المضطهدين، وحين قررت إدارة خروتشوف تعيين شوستاكوفيتش في منصب السكرتير الأول لاتحاد المؤلفين الموسيقيين، كان عليه أن ينضم إلى الحزب الشيوعي للمرة الأولى، ليتمكن من شغل ذلك المنصب، وبدأ في كتابة أعمال موسيقية كان لها دوي في المجتمع السوفييتي.

وفي السنوات التالية التي اتسعت فيها حركة الفن المختلف أو "الانتقادي" كما أطلق عليه وزاد تأثيره السياسي بشكل كبير، قرر شوستاكوفيتش أن ينأى بنفسه عن ذلك التيار، فأصبحت مؤلفاته أكثر ذاتية وتأملية وأصبحت موسيقاه "حول نفسه ومن أجل نفسه"، خاصة بعد أن بدأت صحته في التدهور منذ أن عانى في عام 1966 من اضطراب في القلب، لتبدأ صورة الموت في الهيمنة على أعماله، وبدأ يرفض المشاركة في أي أنشطة سياسية "انتقادية" حتى بعد أن أصبح ثمنها أقل فداحة من ذي قبل، معبراً عن ذلك بقوله: "الموقف الصحي يمكن أن يُتخذ فقط تجاه الواقع الصحي، وكما قال الشاعر الروسي نيكراسوف: حين تصبح أكثر غضباً ستغدو أكثر قدرة على أن تحب على نحو أفضل، يعني لن نحب أنفسنا أكثر بل وسنحب وطننا أكثر".

اختار شوستاكوفيتش أن يعبر عن غضبه من خلال الموسيقى وحدها، بعد أن أدرك أن مورسوسكي كان محقاً حين قال إن النزاعات بين الحكام والشعب المضطهد لن يكون لها حل، وأن أي محاولة للتغيير المتطرف ستنتهي على نحو سيئ، وأن الشعب لن يكون أمامه سوى أن يعاني بقسوة وبلا نهاية ويصبح أكثر بؤساً، وأن السلطة لن يكون أمامها سوى أن تحاول ترسيخ ذاتها، لتتعفن وتفسد، حتى تعم الفوضى التي هي مقدمة لانهيار الدولة، قائلاً لكاتب مذكراته أنه كان يتوقع أن يحدث ذلك بدءاً من عام 1939، وهو ما عبر عنه في المشهدين الأخيرين من الأوبرا التي أغضبت ستالين، ملخصاً ما كان يراه في وطنه بقوله: "بالنظر إلى الوراء، لا أرى سوى الخرائب، فقط جبال من الجثث، وأنا لا أرغب في أن أبني قرى جديدة فوق هذه الخرائب"، ليتوقف عن الانشغال بالشأن العام، وينغمس في ذاته وتأملاته عن الموت الذي وافاه في 9 أغسطس 1975 إثر نوبة قلبية، قبل بضعة أسابيع من بلوغ عامه السبعين.

قصة محزنة في فصلين
يختم ديمتري شوستاكوفيتش مذكراته بعبارات رائعة ومروّعة، تخرج كل ما رواه لنا من سياق عصره، لتضعه في سياق أوسع، قائلاً: "هنا قصة محزنة في فصلين مع مقدمة وخاتمة. التاريخ كما ترى، يعيد نفسه، يمكنك رؤية ذات المهزلة يعاد تمثيلها مرتين أو ثلاث مرات وأحياناً أربع مرات في الحياة، خصوصاً إذا كنت محظوظاً وعشت أكثر من ستين عاماً في أزماننا المضطربة قافزاً فوق حواجز بغيضة. كل قفزة تستهلك الأونصة الأخيرة من قوتك وأنت على يقين من أنها قفزتك الأخيرة، ولكن ثبت في النهاية أن هناك حياة إضافية لتعيشها، ويمكنك أن تأخذ استراحة وتسترخي. وسيعرضون عليك ذات المهزلة القديمة، قد لا تجدها مضحكة بعد الآن. لكن الناس من حولك يضحكون، الصغار من الناس الذين يرون هذا العرض السوقي لأول مرة، ومن العبث أن تشرح لهم أي شيء، سوف لا يفهمون على أية حال، تبحث عن متفرجين من عمرك، إنهم يعرفون، إنهم يفهمون، ويمكنك التحدث إليهم. لكن لا يوجد أحد منهم، إنهم يموتون الواحد بعد الآخر، والذين ما زالوا على قيد الحياة هم حمقى ميئوس منهم، ربما لهذا ظلوا على قيد الحياة، أو يتظاهرون بأنهم حمقى... ما أريد قوله هو أن ما قد يبقى جديداً وقوياً قد لا يكون الموسيقى على الإطلاق، حتى ولا روح الإبداع، بل شيء ما آخر، شيء غير متوقع وعادي، شيء مثل الاهتمام بالناس، بحيواتهم المملة المليئة بالأحداث البغيضة وغير المتوقعة، بشئوونهم واهتماماتهم التافهة، بافتقارهم العام للأمان. لقد ابتكر الناس العديد من الأشياء اللافتة للنظر: الميكروسكوب، شفرات جيليت، فن التصوير، وهلم جرا، لكنهم لم يبتكروا حتى الآن طريقة تجعل حياة كل فرد محتملة".

كان ديمتري شوستاكوفيتش مثقلاً بأحزانه وهمومه، فلم يعط نفسه حقها، ولم يتذكر أنه كان واحداً من الأدباء والفنانين العظام الذين ساعدوا الناس على احتمال حياتهم، مع إن حياة أولئك الأدباء والفنانين لم تكن سعيدة ولا محتملة، لأنهم قضوا قدراً كبيراً منها منشغلين بالإفلات من مكائد عديمي الموهبة وبطش الطغاة الذين لا يحبون الفن، حتى وإن أحبهم الفنانون.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.