الطغاة لا يحبون الفن حتى لو أحبهم الفنانون (1-2)

الطغاة لا يحبون الفن حتى لو أحبهم الفنانون (1-2)

06 فبراير 2019
+ الخط -
"ليس كافياً أن تحب السلطة، ينبغي أن تحبك السلطة"، لم يدرك الموسيقار العبقري ديمتري شوستاكوفيتش مدى دقة هذه العبارة، إلا حين أخذ يتصفح صحيفة البلاد الرسمية ذات صباح، فوجد نفسه متهماً في افتتاحيتها بأنه أصبح عدواً لشعوب الاتحاد السوفييتي بأكملها. كان ديمتري بحكم اقترابه من الأوساط الثقافية والصحفية يعرف أن افتتاحية صحيفة بهذه الأهمية لا يكتبها ناقد موسيقي يمكن أن يتجاهل رأيه ببساطة، بل كان يكتبها أحياناً الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين بجلالة بطشه، وإن لم يكتب الافتتاحية التي هاجمت شوستاكوفيتش بنفسه، فهو حتماً موافق على ما فيها، لذلك سيعتبرها الجميع رأي الزعيم الشخصي، ولذلك كان ديمتري يعرف أن الملايين سيتعاملون معه بوصفه عدواً للشعب، ولن يكون لديه فرصة لتوضيح موقفه.

شوستاكوفيش 


"لا أحد يريد أن يستمع إليك ولا أحد ينطق بكلمة للدفاع عنك، تتلفت حولك، الجميع ينظر إليك بصمت، وحين تحاول قول شيء ينفضون من حولك، إنهم لا يسمعونك، ذلك هو الخوف الحقيقي، كنت أحلم بذلك دائماً والأكثر رعباً من كل شيء هو أن كل شيء كان قد قيل وتقرر، وأنت لا تعلم لماذا تقرر بهذه الطريقة، ولا مجال للجدال. إذا تلطّخت بالوحل من الرأس إلى القدمين بأوامر من القائد والمعلم، لا تفكر أبداً بإزالته، انحن وقل شكراً، قل شكراً وانحن. لا أحد سينتبه إلى ردودك، ولا أحد سيتقدم للدفاع عنك، لكن الأكثر حزناً من كل ذلك أن تكون غير قادر على أن تنفس عن مشاعرك وسط أصدقائك، لأنه لن يكون هناك أصدقاء في هذه الظروف الحقيرة"، هكذا قال ديمتري شوستاكوفيتش لمعد مذكراته الكاتب سولومون فولكوف، معبراً عن معاناته التي عاشها في ظل إمبراطورية الرعب السوفييتية، ولعله لم يكن سيفتح فمه بكلمة، لو لم يكن على ثقة بأن سولمون المعجب به وبموسيقاه، لن ينشر حرفاً مما قاله إلا بعد وفاته، وهو ما حدث بالفعل. كان ديمتري يقول لصديقه دائماً: "بعد موتي، بعد موتي"، ولكي يساند معد مذكراته أمام الناشرين المحتملين في المستقبل، أعطاه صورة شخصية ووقّع عليها وكتب على ظهرها إهداءاً خاصاً يسمح له بنشر مذكراته، وبالفعل حين توفي ديمتري شوستاكوفيتش في أغسطس 1975 قرر كاتب مذكراته أن يغادر الاتحاد السوفيتي لينشر تلك المذكرات، وفي يونيو 1976 وصل إلى نيويورك مصمماً على نشر المذكرات، لكنه لم يتمكن من نشرها إلا عام 1979، في كتاب بعنوان (مذكرات ديمتري شوستاكوفيتش: معاناة عبقري مبدع في إمبراطورية الرعب)، وجد طريقه إلى قراء العربية مؤخراً بعد أن ترجمه محمد حنانا وأصدرته دار المتوسط.

قبل سنوات من أول لقاء بين الاثنين، كتب معد المذكرات نقداً يحتفل فيه برباعية شوستاكوفيتش الوترية الثامنة، لم يكن استقبال ذلك النقد إيجابياً فقد كانت موسيقا شوستاكوفيتش ممنوعة رسمياً في الاتحاد السوفيتي، "وكان يشهّر به في دروس تاريخ الموسيقا وفي الكتب المدرسية"، تعرف سلومون على شوستاكوفيتش بشكل شخصي في ربيع عام 1965، حين قام بتنظيم أول مهرجان موسيقي لأعماله، وحين تعمقت معرفته به أدرك عمق التأثير السلبي الذي كان يعيشه بسبب تعامل السلطة السلبي معه، وحين كتب سلومون عملاً عن مؤلفي ليننغراد الموسيقيين الشباب عام 1971، تصور أنه سيكون من الرائع لو قام شوستاكوفيتش بكل ما له من تاريخ وخبرة بكتابة تمهيد للعمل، وهو ما فعله شوشتاكوفيتش بالفعل، لكن الرقابة قامت ببتر أجزاء من ذلك التمهيد، ليتم السماح بالأجزاء التي يتم الحديث فيها عن الحاضر فقط، في حين تم بتر الأجزاء التي يوجد بها استرجاع للذكريات، حتى لو كانت ذكريات عن الموسيقى والموسيقيين، لكن ذلك البتر المتعسف كان بمثابة دافع أخير قوي لكي يقوم شوستاكوفتش بتقديم روايته عن تجربته، ربما لأنه كان متشككاً فيما ستقوله عنه كتب التاريخ، ولذلك سأل سلومون ذات مرة: "ألا تعتقد بأن التاريخ هو بالفعل عاهرة؟"، ثم حكى له قصة رواها له فيسفولد ميرخولد المخرج والممثل المسرحي الروسي الشهير، وقعت في أيام دراسة ميرخولد للقانون في جامعة موسكو. كان البروفيسور يحاضر طلابه حول الشهادة أمام المحاكم، حين اندفع بلطجي إلى الصف وأحدث اضطراباً نشب إثره عراك، وجرى استدعاء الحراس الذين أخرجوا مثير الشغب، فاقترح البروفيسور على الطلاب أن يرووا له ما حدث للتو، فروى كل طالب قصة مختلفة عن قصة الآخر وقدّم وصفاً خاصاً للبلطجي، حتى أن بعضهم أكد أنه كان هناك العديد من البلطجية الذين هاجموا الصف، وفي النهاية اعترف البروفيسور لطلابه بأن الحدث برمته كان مشهداً تمثيلياً ليبين بوضوح لمحاميي المستقبل أن عليهم أن يعرفوا أي شهادة ذات قيمة، "كانوا شباباً يتمتعون بإبصار جيد ومع ذلك اختلفت رواياتهم، ولكن أحيانأً يكون الشهود كهولاً، ويصفون أحداثاً وقعت منذ زمن بعيد، فكيف نستطيع أن نتوقع الدقة في أقوالهم؟".

الإنسان دون ذاكرة هو جثة
في بداية جلوسهما معاً لتسجيل تلك المذكرات مجهولة المصير، قال شوستاكوفيتش لسلومون: "الأندر والأكثر قيمة في الاتحاد السوفييتي هو الذاكرة. لقد جرى دوسها طوال عقود. وأدرك الناس أن من الأفضل عدم الاحتفاظ باليوميات أو الرسائل. حين بدأ عهد الإرهاب في الثلاثينيات دمّر المواطنون أرشيفاتهم الخاصة، ومعها ذاكرتهم، وما كان يُعتقد فيما بعد أنه ذاكرة لم يكن سوى ما عرّفته الصحيفة اليومية، كان التاريخ يُكتب بسرعة تسبب الدوار. الإنسان دون ذاكرة هو جثة. كثيرون مروا من أمامي، هذه الجثث الحية، التي تتذكر فقط الأحداث التي سُوغت رسمياً، وفقط التي سوغت بطريقة رسمية"، وقد كان ديمتري شوستاكوفيتش محقاً فيما قاله، فحين فارقته الروح وصار جثة، نشرت جميع الصحف السوفيتية نعيه بوصفه "الابن المخلص للحزب الشيوعي والذي كرس حياته كلها لتطوير الموسيقا السوفيتية التي أعادت تأكيد مُثُل الاشتراكية والحركة الإنسانية والأممية"، ولم تُكتب كلمة واحدة عن كل ما تعرض له من اضطهاد من قِبَل الحزب الشيوعي وقياداته، منذ أن غضب عليه جوزيف ستالين الذي كان حريصاً على أن يكتسب سمعة راعي الفن والفنانين، بدءاً من فاجنر الذي أحبه الجميع فقط لأنه كان محبوب ستالين، وانتهاءاً بأصغر مؤلف موسيقي تشرق حياته بالسعد، إن رضي عنه القائد الأعظم الذي كان يحب أن يتحدث الناس عن حبه للموسيقي، على عكس فلاديمير لينين الذي كانت تحزنه الموسيقى وكان يرفض تلبية الدعوات لسماعها.

ستالين 


"كل ما يتردد عن حب ستالين للفن أكاذيب"، يقول ديمتري شوستاكوفيتش مكذباً لتلك السمعة، وواضعاً المسألة في سياق أوسع من شخص ستالين: "يقولون أحياناً أو يكتبون، إن مديري معسكرات الموت الألمانية يعشقون ويفهمون باخ وموتسارت، وهلم جرّا. وإنهم يذرفون الدموع لدى سماعهم موسيقا شوبارت. لا أصدق ذلك. إنها أكاذيب روّجها الصحفيون. شخصياً لم أقابل أبداً جلاداً واحداً يفهم الفن فعلاً... يحب الطغاة أن يقدموا أنفسهم كرعاة للفنون، تلك حقيقة معروفة، لكن الطغاة لا يفهمون شيئاً في الفن. لماذا؟ لأن الطغيان هو انحراف والطاغية منحرف، يبحث الطاغية لعدة أسباب عن القوة، يدوس الجثث، القوة تغري، تفتنه فرصة سحق الناس والسخرية بهم. أو ليس التوق إلى السلطة هو في حد ذاته انحرافاً؟ إذا كنت مستقيماً ينبغي أن تجيب عن السؤال على نحو إيجابي، وفي اللحظة التي تثور في نفسك الشهوة إلى السلطة، فأنت إنسان ضائع. أنا نزّاع إلى الشك في كل مرشح للزعامة، فقد كان لديّ ما يكفي من الأوهام في شبابي الضبابي".

يستعيد ديمتري في حديثه كلمات إلف وبيتروف: "ليس كافياً أن تحب السلطة السوفيتية، ينبغي أن تحبك"، وهو يتذكر شعور الإرهاق القاتل الذي عاشه على مدى سنين طويلة، لم يكن مهماً فيها كيف كانت ردة فعل الجمهور تجاه عملك، وهل أحبه النقاد أم كرهوه، "كل ذلك لم يكن يعني شيئاً في نهاية الأمر كان هناك دائماً سؤال واحد بخصوص الحياة أو الموت: إلى أية درجة أحب القائد عملك، أنا مرهق، حياة أوموت، حرفياً وليس مجازياً... ثمة فنان اختفى إلى الأبد لأن الصورة الزيتية التي رسمها للقائد لم تماثل هيئة ذلك القائد، وذلك ما حدث للكاتب الذي استخدم كلمات خشنة، لا أحد دخل معهما في مناقشات جمالية أو طُلِب منهما تفسير آرائهما، قدم أحد من أجلهما في الليل، ذلك كل شيئ".

لم يكن أحد من الفنانين يعرف ما الذي يجب أن يفعله لكي يرضي السلطة، فعلى حد تعبير شوستاكوفيتش، مهما بذلت من جهد لإرضاء رغبات الطاغية المنحرفة، لن يحد ذلك من استمرارها، لأن السلطة كي تظل مصانة، لا بد أن تشعر الجميع بالخوف طيلة الوقت، "وحتى لو لم يكن هناك أعداء ينبغي اختراعهم، لأنك لولا ذلك لا تستطيع أن تشد عضلاتك على نحو كامل، لا تستطيع أن تقمع الناس على نحو كامل، ومن دون ذلك ما نفع السلطة؟". تعلّم شوستاكوفيتش الكثير من كل ما جرى من قمع لزملائه وأصدقائه من الفنانين سواءاً كانوا متمردين أو شبه متمردين أو موالين بالكامل، سواءاً كانوا عباقرة أو أنصاف موهوبين، وأدرك أن "الإنسان لا يتمتع بأهمية في الدولة الاستبدادية، الشيء الذي يهم هو فقط الحركة الميكانيكية للدولة. الميكانيك يحتاج إلى أسنان للدواليب فقط. اعتاد ستالين أن يسمينا كلنا أسنان دواليب. السن الواحد لا يختلف عن الآخر، ويمكن بسهولة أن تحل أسنان محل أسنان أخرى، يمكنك أن تختار سناً وتقول: "منذ اليوم ستغدو سناً عبقرياً"، وكل شخص سيدعوك عبقرياً، لا يهم على الإطلاق فيما إذا كنت أو لم تكن، أي شخص يمكن أن يغدو عبقرياً بأوامر من القائد".

اتقّوا غضب الزعيم
كانت السلطة الحاكمة للاتحاد السوفيتي قد بدأت سيطرتها على البلاد بشهر عسل مع الفنانين المستقلين الذين لا يقبلون العمل بتوجيهات من المسئولين، لكن شهر العسل الطويل نسبياً انتهى في أواخر العشرينيات، وعادت السلطة لتتصرف "كما هي العادة دائماً: طالبت بالخضوع، لكي يكون المرء مفضلاً، لكي يُكلّف بمهام ويعيش بسلام، ينبغي أن يدخل في جهاز الدولة"، وبوصفه فناناً شاباً طموحاً، تعاون شوستاكوفيتش مع رعاة "الفن الجديد"، ومع مرور الوقت لم يعد يستطيع تحمل "التعليمات الساذجة لطبقة الموظفين السوفييت"، لكنه لم يرد الدخول في نزاع مفتوح مع السلطات، ولم يقبل بالخضوع الكلي الذي يهدد بنهاية قدرته على الإبداع، فاختار سبيلاً آخر وهو أن يلعب دور الأحمق المعتوه، والذي كان قد سبقه إليه مؤلف موسيقي آخر هو موسورسكي، لتتسامح السلطات مع اختياره لسكة "سوق الهبل على الشيطنة"، طالما أن ذلك لم يمثل صداماً كاملاً معها، وفي ظل ذلك التسامح المحدود، قام شوستاكوفتيش بتقديم أوبرا (الأنف) المأخوذة عن جوجول، ثم قام بتقديم أوبرا (ليدي ماكبث) التي تم عرضها 36 مرة في غضون خمسة أشهر في مدينة ديمتري الأم سانت بيتسبرغ التي كان قد تحول اسمها إلى (لينينغراد)، كما تم عرضها 94 مرة في موسكو خلال موسمين، وحظيت بتقدير نقدي، ليُنادى بشوستاكوفيتش عبقرياً على الملأ.

لكن حظ شوستاكوفيتش لم يدم طويلاً، فقد ذهب الزعيم الأوحد ستالين ليشاهد أوبرا (ليدي ماكبث) خلال وجود شوستاكوفيتش في زيارة عمل رسمية إلى تركيا، غادر ستالين المسرح غاضباً مما شاهده، وفي اليوم التالي نشرت صحيفة البرافدا الناطقة باسم الحزب الشيوعي الحاكم مقالة افتتاحية أملاها ستالين بنفسه، وصف فيها أوبرا شوستاكوفيتش بأنها "تصعق المستمع ببشاشتها المنفرة وبطوفان من الأصوات المشوشة"، لتنقلب حياة شوستاكوفيتش رأساً على عقب، حيث سُحِبت الأوبرا من المسرح على الفور، وبدأت كلمات ستالين الحادة في نقدها تتردد في الأوساط الثقافية والفنية لتهدده بالويل والثبور، وحين حاول أحد أصدقائه الدفاع عنه بكتابة رسالة إلى ستالين تذكره بأن شوستاكوفيتش "عدا أوبرا ليدي ماكبث الفاسدة التي انتقدتها صحيفتنا المجيدة البرافدا، كتب أيضاً أعمالاُ موسيقية عديدة تتغنى بمجد وطننا الاشتراكي"، قرر ستالين بأن يعطي شوستاكوفيتش فرصة ثانية وذهب لمشاهدة عرض باليه (التيار اللامع) الذي قام شوستاكوفيتش بوضع موسيقاه، لتظهر بعد تلك الزيارة مقالة هجومية أخرى في البرافدا ضد العرض، فيتأكد إعلان شوشتاكوفيتش عدواً للشعب، حتى أن إحدى الصحف أعلنت عن حفلة له بقولها: "تقام اليوم حفلة لعدو الشعب شوستاكوفيتش"، ويتم وضعه تحت المراقبة الدائمة، وبدأت تتوالى عليه رسائل مجهولة تهدده بأنه لا يمتلك وقتاً طويلاً ليعيش على الأراضي السوفيتية، وأن أذنيه الشبيهتين بأذني الحمار ستقطعان مع رأسه، وحين تعرض صديقه توخاتشيفسكي للاعتقال في ظل حملات رفعت شعار (التطهير) وملأت معسكرات الغولاغ بالمعتقلين السياسيين من كل صنف ولون، أصبح شوشتاكوفيتش يتعامل مع مسألة الزج به في معسكرات الاعتقال بوصفها قدراً حتمياً، وقام بتجهيز حقيبة صغيرة تحتوي على حاجياته الضرورية، وحين تعرض توخاتشيفسكي للإعدام، فقد وعيه وشعر أنه تعرض للقتل مع صديقه، ليقرر الاستسلام لمصيره، وهو يقرأ الصحف التي تمتلئ كل يوم برسائل ومقالات تطالب بالموت للجواسيس والإرهابيين والخونة.

عبد الخوف!
لم يكن ديمتري شوستاكوفيتش يعرف أن موسيقاه التي جلبت له أشنع الاتهامات وأعلنته عدواً للشعب، هي نفسها التي ستنقذه من الهلاك في معتقلات سيبريا مثل ميرخولد وتوخاتشيفسكي وغيرهما من الفنانين والأدباء الذين غضب عليهم ستالين ورجاله، فلأن ستالين كان يقدر الدعاية الفنية التي بدأت الأفلام السوفيتية تتفنن فيها، أدرك أن الموسيقى التي وضعها شوستاكوفيتش لعدد من تلك الأفلام ساهمت في إضفاء تأثير عاطفي عليها بشكل أعجب ستالين، ولذلك قرر أنه لن يعتقل شوستاكوفيتش إذا استمر في الكتابة الموسيقية للأفلام الدعائية السوفيتية، لتكون ذلك طبقاً لوصف سلومون فولكوف كاتب مذكراته، بمثابة "إعطاء الضريبة لقيصر وطريقة فعالة وغير مؤذية للبقاء على قيد الحياة".

لكن شوستاكوفيتش برغم ذلك، لم يفارق إحساسه بالخوف، وظل يتوقع الاعتقال في عقله طيلة أربعة عقود، رأى نفسه فيها كرهينة وكرجل مدان، وهو ما جعله طيلة الوقت يائساً وقريباً من الانتحار، معبراً عن ذلك بقوله: " في حياتي التعيسة كان هناك العديد من الأحداث السيئة، ولكن كان هناك فترات تجمّع فيها الخطر على نحو مشؤوم، وعندما كان محسوساً بصورة خاصة ازداد خوفي، وفي الفترة التي كنا نتحدث عنها كنت قريباً من الانتحار. أرعبني الخطر ولم أر مخرجاً آخر. كنت عبداً للخوف على نحو كامل. لم أعد سيد حياتي، شُطب ماضيّ، عملي وقدراتي انتهيا ليصبحا عديمي القيمة، ولم يبد المستقبل أقل قتامة. في تلك اللحظة أردت بيأس الاختفاء".

لم يُسلم ديمتري شوستاكوفيتش نفسه بالكامل لتلك المشاعر الخطرة، خصوصاً حين تمكن من فصل نفسه عن الآخرين، بما فيهم أصدقاءه ومعارفه الذي تسبب غدرهم المخجل له في الكثير من الألم، وحين قام بعزل نفسه عن الجميع، وغرق في القراءة والتأمل، هزّته أفكار للكاتب الشهير زوتشينكو وساعدته في ساعات يأسه، كان زوتشينكو يناقش فكرة الانتحار التي وصفها بأنها "فعل طفولي وتمرداً من المستوى الأدنى للنفس ضد المستوى الأعلى للنفس"، ليصبح تحقق الانتحار انتصاراً أخيراً لأدنى ما في النفس على أعلى ما فيها. لفتت تلك الفكرة انتباه شوستاكوفيتش إلى أفكار أخرى لزوتشينكو يقدم فيها فلسفة ساخرة لفكرة التعامل مع القلق والتوتر، حيث يرى زوتشينكو أن الإنسان في الأدب الرفيع فقط، يتوقف عن الأكل والنوم لأنه متوتر، أما في الواقع فالحياة أبسط بكثير، حيث "يتوقف الشحاذ عن القلق حالما يصبح شحاذاً، والصرصار لا ينزعج من كونه صرصاراً"، ليتمسك شوستاكوفتيش بهذا المعنى البسيط، ويدرك أنه لابد أن يتصالح مع واقعه المرير لكي تمضي الحياة، وأنه لا بد من أن يعيش ويطعم عائلته، ويتوقف عن التفكير في اتخاذ قرارات متطرفة، ليخرج من أزمته أقوى مما كان، ويتوقف غدر الأصدقاء والمعارف عن التأثير فيه، ويحكم عزلته عن الآخرين، ليتحقق خلاصه المؤقت.

استأنف شوستاكوفيتش حياته الاجتماعية، ومنح وقتاً أكثر لزوجته وأسرته، وأنجبت له زوجته ابنته غالا وابنه مكسيم، وبرغم انشغاله في تحقيق رغبات ستالين في الموسيقا التصويرية، عاد في الوقت نفسه لكتابة الموسيقى، فأنهى في عام 1936 سيمفونيته الرابعة، دون أن يشغله ما إذا كانت سترى طريقها إلى النور أم لا، ووضع في نغماتها خلاصة مشاعره وأفكاره في تلك الفترة، وبعد أن أنهاها، قرر أن يؤجل تقديمها لتُعزف بعد خمسة وعشرين عاماً من كتابتها، مع أنه كان يرى أن الموسيقى ينبغي أن تُعزف بعد تأليفها مباشرة، لكنه آثر أن يوقف تقديمها، ولم يهتم بانتقاد بعض أصدقائه لأنه آثر قمع نفسه، قائلاً لهم "من السهل الحكم من بعيد، ولكن إن كنتم مكاني لغنيتم لحناً مختلفاً"، رفع شوستاكوفيتش شعاراً لنفسه يقول "ينبغي لك أن تحاول العمل على نحو دائم تحت أية ظروف، بذلك يمكن إنقاذك أحياناً"، مستعيداً وجهة النظر التي آمن بها سلفاه العظيمان تشايكوسفسكي وريمسكي كورساكوف التي تؤمن بأنه "يتوجب عليك أن تكتب دائماً، إن لم تستطع كتابة عمل كبير، اكتب أعمالاَ صغيرة، إن لم تستطع اكتب بأية طريقة... ينبغي أن تدرب يدك باستمرار ولكن يجب أن تعمل مع مادة مهمة أو عزيزة عليك".

مأساة ميرخولد
لكن شوستاكوفيتش برغم كل تلك التغيرات المهمة، لم ينجح في التخلص الكامل من الخوف، فقد ظلت تيمة انتظار الإعدام تعذبه طيلة حياته، ولعلك تدرك أنه كان محقاً في خوفه، حين تقرأ ذكرياته عن الطريقة المرعبة التي كان يتعامل بها ستالين ورجاله مع الفنون والفنانين، يكفي أن تعرف أن ستالين أخذ موقفاً متشدداً تجاه رائعتي شكسبير (هاملت) و(ماكبث)، لأنه لم يرد أن يشاهد الناس مسرحيات بحبكات لا تروقه، مثل (ماكبث) التي تحكي عن طاغية يخوض في الدم إلى ركبتيه ويعاني من وخزات الضمير، ولذلك لم تُشاهد المسرحيتان لسنوات طويلة على المسرح السوفيتي.

حين يسود مناخ كابوسي كهذا، لن يشفع لك أن تكون موالياً للسلطة، وهو ما رآه شوستاكوفيتش بنفسه يحدث للمسرحي العظيم ميرخولد، الذي لم يقصر أبداً في تأييد السلطة، وكان يبادر إلى التوقيع على تفويضات الموت للمعارضين في عهد ستالين، وحين جاء لازار كانوفيتش زوج أخت ستالين الصغرى روز لمشاهدة إحدى مسرحيات ميرخولد، لم يعجب زوج أخت ستالين بالمسرحية، فقرر أن يغادر في منتصفها، ليجري ميرخولد الذي كان في عقده السادس إلى الشارع خلفه ليقنعه بالعودة، لكن كانوفيتش كان قد استقل مع حاشيته سيارته التي انطلقت مسرعة، ليركض ميرخولد خلف السيارة حتى سقط من التعب، ليتم إغلاق مسرحه بعد ذلك، لم ينس شوستاكوفيتش ذلك المشهد المؤلم أبداً، والذي لم يكن نهاية ما حدث لميرخولد المسكين.

يقول شوستاكوفيتش معلقاً على ذلك المشهد: "من المستحيل أن تتصور الآن كم كان ميرخولد شهيراً، عرفه كل شخص، حتى أولئك الذين لا يهتمون بالمسرح أو الفن، حتى أنهم اعتادوا بيع أمشاط دُعيت ميرخولد، ثم اختفى الرجل، اختفى فحسب، وذلك ما كان، وكأنه لم يكن موجوداً، وقد مضت عقود ولا أحد يذكر ميرخولد، كان الصمت مريعاً شبيهاً بالموت، قابلت شباناً مثقفين لا يعرفون شيئا حول ميرخولد، كان قد مُحي كما تمحى بقعة صغيرة بممحاة حبر كبيرة... في الأيام الخوالي كان الناس يدعون المحكوم بالبائس الفقير، وكانوا يحاولون مساعدة المحكومين أن يمنحوهم شيئاً، ولكن في وقتي تغير الموقف تجاه المعتقل، إذا كنت سجيناً فأنت لم تعد موجوداً. أردت أن أذكِّر الجمهور بأن المحكومين هم أناس بائسون وأنه لا ينبغي أن يقسوا على إنسان حين يكون في الحضيض، اليوم أنت في السجن، غداً يمكن أن أكون في السجن".

نكمل غداً بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.