وللحقيقة وجوه كثيرة

وللحقيقة وجوه كثيرة

03 فبراير 2019
+ الخط -
احدودب ظهره واتقدت عيناه شررًا، تنكش يمناه الأرض بمخصرته، فجأة قبض على عصاه بقوة، وقال بصوت مبحوح: اكتشفتها بنفسي! عرفت الحقيقة كاملة. عبثًا حاول بعضهم أن يحاوره، وقال أحدهم: لعن الله الملاحة! ولما استيأسوا من النقاش؛ نقلوا دفة الحديث لوجهة أخرى.

كانت فيه خصلة يتحاشونها، لم يكن من الفطنة الحديث عنها؛ فأمراض النفوس يصعب إثباتها من خلال الأشعّة والفحص، ويصعب علاجها بـ "كورس" مضادّ حيوي. لو أن شخصًا تعرفه جيدًا، وقيل لك إنه حسود؛ فهل من الحكمة أن تواجهه؟ أم تتجنب الخوض في هذا الشأن؟!

تختلف الآراء فالبعض يؤثر السلامة، والبعض يصرّ على الملاحة، وفي لحظة يكشف القدر أوراقه، وقد يصفع صفعته للمأمون يوم ألحَّ على زبيدة، لم ترد أم جعفر أن تخبر المأمون ما يغير صفو نفسه، لكنه أصرّ عليها واستحلفها؛ فلما عرف القصة ندم وركبه الحزن، وأطلق عقله الباطن لسانه فأعلن: "لعن الله الملاحة".


أما صاحبنا، فيرى أن أحدهم "قطع الحليبة والرايبة" دون سبب مفهوم، ويذكر الموقف ليغوص قلبه بين قدميه. ما أتعس الحياة بلا صديق صدوق! لكن هل من حق الصديق أن يكاشفنا بعيوبنا التي ننكرها ونتبرأ منها؟!

وتمر الأيام تطوي الأعمار، ومعها تطوي ذكريات جميلة، لكن مرارة جراحنا تستعصي على النسيان، وربما تعيدنا إليه رشة عطر أو عثرة خفيفة أو موقف عابر؛ فنجترّ الألم ونلعق الجرح وتخور قوانا. آه لو بمقدورنا تمزيق تلافيف الذكريات، ربما تحول دون سياط الحيرة والتشبث بهذا الماضي. جرح صاحبنا "طري" ينزف ويلحّ عليه، ولا ينفك يدخل سرداب الماضي ليفتش في الأسباب.

وكان أن التقى بصديق الأمس وغريم اليوم، ويصرّ على فتح محضر الأمس، والآخر يتهرب منه بدبلوماسية مرّة، وبافتعال الغضب ثانية وثالثة، إلى أن دقت ساعة الاعتراف المرير؛ فألقى عليه الآخر قنبلة وجاءه بوجه آخر للحقيقة، وسأله: أتذكر يا فلان يوم نسيت حافظة نقودي عندك؟ لم ينس بالطبع، كما أنه أعاد الأمانة بكمالها وتمامها، لم يُنقصها مثقال ذرة؛ فهل هذا سبب القطيعة؟!

لو أنه أبصر المحجوب، وتذكر أنه وجد صعوبة في استخراج رخصة القيادة، وحاول سبع مرات دون جدوى، وأن الآخر لم يتحدث عن حصوله على الرخصة من المرة الأولى احترامًا لمشاعره، محاولًا تجنب ما قد يجرحه أو يسيء إليه معنويًا، لكن سيف القدر منصلت على الجميع، ولا رادّ لقضاء الله.

قبل أن يعيد الأمانة، وقعت عينه على رخصة القيادة؛ فظن كل الظنون إلا الحسن منها، وأمسك هاتفه الذكي وصوّر الرخصة ليبرهن للآخرين أنه حاز الدليل القاطع وأمسك البرهان الساطع. أعاد الأمانة لصاحبها، لم يلمس ما فيها من مال؛ فلا حاجة له بأموال الآخرين، وقد وسَّع الله عليه، لكن احتفاظه بصورتين لها لم يرق صاحبها، وقرر أن يعتزل صحبته.

بالأمس لم يكاشفه احترامًا لمشاعره، واليوم لن يفتح بابًا قد يعيده إلى النقطة التي تفادى الخوض فيها، وكان أن "صباح الخير يا جاري، أنت في حالك وأنا في حالي". تواجهنا مواقف نعدّها مصيرية، ونتخذ حيالها قرارات نجزم أنها صائبة، وأن الزمن لو عاد بنا ألف مرة لتصرفنا على النحو نفسه، وقد نكون مخطئين بدرجة أو بأخرى.

عدم العلم لا يعني العلم بالعدم، وليس كل ما يغيب عنا تسعدنا معرفته، وقد تقف على وجه للحقيقة، ويمسك غيرك بتلابيب طرف يغيب عنك؛ فتغافل ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، وليس التغافل قرين الغباء، بل قد يحفظ علاقات الرجل بأهله وأصدقائه، و"العيش اللي يتفتش ميتاكلش".