سطو وتشليح في وضح النهار

سطو وتشليح في وضح النهار

28 فبراير 2019
+ الخط -
ذات مرة، عُقِدَتْ جلسةُ الـ"إمتاع ومؤانسة" في مدينة "كيركهان" التابعة لولاية هاتاي في تركيا. وقد حصل ذلك بالمصادفة، إذ كنا في زيارة لصديقنا عادل، وهو، بدوره، دعا بعض الأصدقاء من أبناء بلدتنا المقيمين في "كيركهان" للحضور. وكان بين المدعوين رجل تركي من أصل عربي، اسمه "صفوان"، عُرِف عنه حبه لمساعدة اللاجئين السوريين في ما يتعلق بمعاملاتهم الإدارية، والترجمة.

قال أبو عبدو، وهو من أهل بلدنا: البارحة رحنا أنا والأخ صفوان إلى باب الهوى، واستقبلنا صديقنا "أبو البر" مع عائلته.
دهش عادل وقال: أبو البر نزح إلى تركيا؟ أنا أعرف أنه رافض لفكرة النزوح، وخلال السنوات الماضية تحمل كل أنواع القصف وانقطاع الماء والكهرباء والمازوت، وبقي في البلد.
قال أبو عبدو: لم يأتِ نازحاً، بل جاء لزيارة أخته المقيمة في مدينة الريحانية وقد علم أنها مرضت بسرطان الثدي، وبالتالي هي غير قادرة على زيارته في البلد، لأنها تتلقى جرعات العلاج "الكيماوي" في مشفى أتاتورك الجامعي القريب من مدينة أنطاكية.

ضحك أبو الجود وقال: بسيطة. نحن السوريين متعودين عـ الكيماوي!
قال أبو عبدو: لو رأيتم ما فعل الزمان بـ أبو البر. أنا أعرف أنه كان في صباه بحجم الجاموس الشبعان، الآن صاير مثل خيال المآته، وبالكاد يطلع وزنه 60 كيلوغراماً.
قلت مخاطباً عادل: أيام الخدمة العسكرية، أنت وأبو البر كنتوا ساكنين في منزل بائس في دمشق، أعتقد أن اسم الحي "خان الرز". وكنتوا على طول تنشروا المرح والضحك بين أصدقائكم. وكنتوا تستخدموا مصطلح اليوم العالمي، وأنا بتذكر حكيتوا لي مرة عن اليوم العالمي للبيض، ولما سألتكم عن سبب التسمية شرحتوا لي أنكم الصبح أفطرتوا بيض مسلوق، وعلى الغداء بيض مقلي وفي السهرة مفركة بيض بالكوسا.


ضحك الحاضرون، تابعتُ حديثي قائلاً: إذا ما فيها تعب يا عادل احكي لنا على "اليوم العالمي للإفلاس".
قال عادل: حاضر. يا سيد كنا أنا وأبو البر في الخدمة العسكرية، ومتلما بتعرفوا العسكري إما أن يأكل ويشرب وينام في القطعة العسكرية ويسمونه (مُطْعَم).. أو أن يستأجر بيتاً في المدينة ويعطونه نقوداً بدل الطعام ويقال له (مُبْدَل). أنا وأبو البر كنا من النوع الثاني. وكثيراً ما كانت النقود التي نقبضها من محاسب القطعة العسكرية تنفد، ونجلس في البيت أياماً نقرمش خلالها ما تبقى لدينا من خبز يابس وبقايا خضار ذابلة.. ونبقى هكذا إلى أن يصلنا الدعم من أهالينا عن طريق أي واحد من أبناء البلد عندما يأتي إلى الشام.

قال أبو أحمد: صحيح. أنا مرة كنت رايح ع الشام وجبت أربعين ليرة سورية لعادل من والده.
قال عادل: المهم، مرة من المرات قررنا أن ننزل ونتمشى في الصالحية، ولم يكن معنا أي نوع من أنواع العملة الورقية أو المعدنية. أبو البر قبل أن نغادر البيت قال لي: اقرأ الشهادتين على روحك يا عادل، لأن الإفلاس قد يؤدي بالإنسان إلى الموت. كانت أجرة الباص الداخلي في تلك الأيام ربع ليرة سورية. طلع أبو البر إلى الباص من الباب الأمامي وأنا طلعت من الباب الخلفي.

بعد أن مشى الباص بقليل تقدم الجابي من أبو البر وقال له: ادفع. فقال له بكل ثقة بالنفس: دفعت لك! وزيادة في التحدي سأله: هل يكون الدفع مرتين؟ قال الجابي: أنت لم تدفع. قال أبو البر: بلى دفعت لك خمس ليرات. أعد لي البقية.

في هذه الأثناء تقدمتُ أنا من الخلف دافعاً الركاب بكلتا يدي وقلت للسائق: دفع لك، وبالأمارة دفع عن نفسه وعني، وسمعته يقول لك (خود أجرة راكبين). هنا شعر الجابي بالاطمئنان وقال: طيب يا أخي، هو يقول إنه دفع لي خمس ليرات، وأنا لا توجد معي أي قطعة من فئة الـ خمس ليرات.. هنا أنا شعرت بالخطر، فالحجة التي قدمها الجابي مقنعة، لذلك أمسكته من تلابيبه وقلت له: شوف عمي، إذا مفكر تأخذنا بالعبطة أنت غلطان. هات أربع ليرات ونصف وبلا ما تعمل معنا مشكلة، لأن نحن من دون شي طفرانين وحاطين دمنا على كفنا. حوقل الجابي بألم، وناول أبا البر أربع ليرات ونصف، ساعدتنا على قضاء مشوار رائع في الصالحية.

قال العم أبو محمد: القصة حلوة، بس هيك ظلمتوا الجابي، أكيد هو رجل فقير.
قال عادل: نعم. كنا نشعر دائماً بتأنيب الضمير تجاهه. ولكن هذا ما حصل. الله غالب يا عمي.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...